في هذا التحليل الذي افترضه لموقف حمدوك الغريب بالاتفاق الذي أبرمه أمس منفرداً مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ووجد ردود فعل سلبية محبطة في الشارع الثوري وفي أوساط الشعب السوداني، سأنطلق من تقدير مضمر لافتراض خفي عن اتفاق ما ربما جعل من حمدوك يقدم على هذه المجازفة الكبيرة بسمعته الثورية وسيرته المهنية. فيما يظل تحليلنا هذا في النهاية مجرد افتراض لتقديرموقف ذي قراءة سياسية قد تؤكد الأيام صدقيتها أو تنفيها، وفي الحالين تبقى قراءةً وتحليلاً ينطلق من تركيب وإعادة قراءة وقائع معينة في الواقع السياسي المحلي والإقليمي والدولي المتصل بالأزمة السودانية.
1 – فإذا افترضنا مثلاً أن موقف حمدوك الغريب هذا يوم أمس كان موقفاً مبيتاً من قبل، سيكون السؤال الملح هو التالي: إذن لماذا انتظر 26 يوماً استشهدت خلالها في الحراك الثوري انتصاراً لحمدوك أرواح طاهرة من شهداء الثورة السودانية؟ وسيظل السؤال محيراً وبلا جواب؟
2 – كان هناك ضغط واضح ومكثَّف لأمريكا اضطرت معه إلى إعلان بيان رباعي مع بريطانيا والسعودية والإمارات للمطالبة بالعودة إلى الوثيقة الدستورية وإعادة حمدوك، إلى جانب التهديد بمشروع قرار في الكونغرس لفرض عقوبات على الانقلابيين إلى جانب مجبئ مساعدة وزير الخارجية الأمريكية في موعد تزامن مع مليونية 17 نوفمبر. ففي ظل ضغط كهذا لايمكننا تصور غياب لدور أمريكي خفي غير ظاهر (سنتطرق حول التكهن به كاحتمال لاحقاً) وهذا الدور بالتأكيد سيكون في خلفية اتخاذ حمدوك لهذا القرار الذي اتخذه في الموافقة على اتفاق الإعلان الذي وقعه مع البرهان.
3 – هناك تسجيلات صوتية سربت أسراراً خطيرة ظهرت يوم السبت الماضي تتحدث عن وثائق وقعت بيد لجنة إزالة التمكين في أواخر أغسطس تدين أفراد المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي السابق بخصوص جرائم خيانة وطنية تصل عقوبتها إلى الإعدام وهي جرائم على صلة بمحاور مناوئة لأمريكا ولقد نجحت لجنة إزالة التمكين في تسريب هذه الوثائق إلى الخارج بصورة آمنة.
4 – ساد يوم السبت الماضي في أوساط كبار العالمين ببواطن الأمور من الشخصيات السياسية السودانية بقرب إنقلاب وشيك داخل الجيش للانحياز للشعب، وكانت السفارة الأمريكية في الخرطوم قد تلقت اخطاراً كهذا من الولايات المتحدة. بحسب رسائل مسربة.
5 – حتى اللحظات الأخيرة كانت الدوائر حول البرهان وحلفائه يشيعون ويسربون للصحافة أن اسم حمدوك غير مطروح في أي رئاسة مقبلة للحكومة التي سيتم تكوينها من طرف البرهان وأن حمدوك أصبح من الماضي، وسط تكهنات بتعيين هنود أبيا كدوف تارة، ومضوي تارة أخرى، لكن فجأة عرف العالمون ببواطن الأمور في الخرطوم اجتماعاً سرياً استمر حتى ساعات متأخرة من الليل بين حمدوك والبرهان وتم تسريب الخبر في ساعة متأخرة من الليل إلى وسائل الأنباء وقنوات التلفزة
6 – الترحيب الدولي الذي لقيه اتفاق حمدوك – البرهان خصوصاً من طرف دول الترويكا (بريطانيا – أمريكا – النرويج) وكذلك الاتحاد الأوربي، وكندا إلى جانب ترحيب كل من السعودية والإمارات ومصر يعكس بوضوح ثمة علاقة ما لبعض تلك الدول بتفاصيل وكواليس هذا الاتفاق
7 – وبطبيعة الحال الزخم الثوري الذي أطلقه الشارع السوداني عبر المليونيات الهادرة واستشهاد أكثر من 30 شهيد بذلوا أرواحهم في تلك التظاهرات من أجل عودة الحكم المدني، كان ذلك الزخم هو السبب الجوهري والحقيقي الذي سرع بتفاعل المجتمع الدولي.
8 – كان من الملاحظ أنه بعد الاتفاق تم تقديم كلمتين من حمدوك والبرهان فيما كان حميدتي جالساً في المنصة كطرف ثالث لكنه لم يتحدث ولذلك في تقديرنا دلالة رمزية للجهة التي نتكهن أنها وراء ذلك الاتفاق ولكن من طرف خفي.
9 – يمكن القول، على ضوء تلك المعطيات أيضاً أن هناك اجتماعاً تم بين مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية ” مولي فيي ” وبين د. الهادي إدريس ، والطاهر حجر ومالك عقار في منزل د. الهادي إدريس فيما لم تجتمع المساعدة مولي فيي مع جبريل ومني مناوي وإنما أرسلت لهم موظفة مساعدة لها.
10 – الاعتماد على الوثيقة الدستورية كمرجعية للاـتفاق السياسي أو خارطة طريق البرهان – حمدوك مع اتاحة الحرية الكاملة لحمدوك في اختيار وزراء حكومته من التكنوقراط (بخلاف ما كان عليه الحال مع قوى الحرية والتغيير التي كانت تلزم حمدوك اختياراً واحداً من خيارات ثلاث تقدم إليه باسماء الوزراء المحتملين لوزارة ما)
على ضوء ذلك كله يمكن القول أن ثمة افتراض محتمل للتكهن باتفاق سري برعاية أمريكية وبتدبير من مساعدة وزير الخارجية الأمريكية ” مولي ليي ” بين حمدوك والبرهان وحميدتي يقضي بصفقة ما لضمان أمريكي لملاذات آمنة ومخرج من أي مسائلة جنائية ضد كل من البرهان وحميدتي على أن يتم مقابل ذلك من طرفهما السماح لحمدوك بالحرية المطلقة في اتخاذ القرارالحر المستقل ودون معارضة في العمل الحكومي والتنفيذي وتدبير شؤون ما تبقي من المرحلة الانتقالية على أن يظل دور كل من البرهان وحميدتي دوراً رمزياً شكلياً.
هذا التكهن والاحتمال الذي نفترضه لذلك الاتفاق يمكن أن يكون حقيقةً في الأيام والشهور المقبلة فقط إذا قام حمدوك بأربعة إجراءات واضحة وبينة وهي الإجراءات التالية:
1 – إذا استطاع حمدوك اختيار وزراء أكفاء مستقلين ومعروفين بالنزاهة الأخلاقية والسيرة الحميدة والحس الوطني، وتكشف أداءهم في الوزارات بما يؤكد ذلك بوضوح لكل مراقب.
2 – إذا تمكن حمدوك من اختيار ولاة للولايات بنفس المواصفات السابقة التي تم ذكرها في صفات الوزراء أعلاه.
3 – إذا اختار حمدوك مدراء عموميين لجهاز الدولة العام بنفس تلك المواصفات المذكورة.
4 – وأخيراًـ إذا ضمن حمدوك الوفاء بمواد الوثيقة الدستورية في الحريات الإعلامية والحريات السياسية وحرية الاحتجاج والتنظيم والتظاهرات من خلال قرارات واجراءات واضحة جداً.
إذا فعل حمدوك كل ذلك وصدقت تكهنات هذا التحليل في الأيام والشهور القليلة القادمة فيمكن أن يكون ذلك مؤشراً قوياً لاستئناف دوره بطريقة لاتخلو بداياتها من مجازفة بسمعته وتاريخه النضالي والمهني، لكنها حين تتكشف نهاياتها عن الحقائق المحتملة التي افترضناها في هذا التحليل، يمكن القول أن مجازفته تلك ربما هي قرار منه على ضوء الاتفاق السري الذي قدَّرنا أنه قد يكون تم تدبيره برعاية أمريكا (والاتفاق هنا سيكون موازياً بصورة ما لاتفاق الإعلان الدستوري والسياسي في 17 أغسطس 2019 بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي آنذاك ولكن هذه المرة بضمانة أمريكية سرية وبدون حاضنة سياسية) تلك الحاضنة التي خبرحمدوك عطبها وأدركه إدراكاً تماماً طوال سنتين تم فيها اهمال مميت لاستحقاقات غير قابلة للتأجيل حتى حاول الالتفاف عليها بمبادرته ” المبادرة الوطنية حول الانتقال الديمقراطي – الطريق إلى الأمام ” التي حاول بها حمدوك لفت قوى الحرية والتغيير وتنبيهها إلى خطورة ما هي فيه من خلافات مؤذية للمرحلة الانتقالية الحساسة (وبالفعل أدت تلك المبادرة إلى انتباه الحرية والتغيير متأخرة و تنظيم الإعلان السياسي الذي أعاد ترتيب أوضاعها في 8 سبتمبر الماضي) ما سيعني أن في توقيع حمدوك على هذا الاتفاق منفرداً مع البرهان ضمن رعاية أمريكية سرية نفترضها في هذا التحليل لذلك الاتفاق، ربما يمنح حركة أكثر حريةً في اتخاذ قراراته .. ولقد كانت تصريحات حمدوك امس في حوار مع قناة الجزيرة الانجليزية التي أكد فيها أنه سيكون حراً في قرار تكوين حكومته دالة على ذلك.
أما وجود مجموعة اعتصام القصر ورموزها من مكونات الميثاق الوطني في قاعة التوقيع فربما يكون إخراجاً شكلياً للايهام فقط (لاسيما بعد أن عرفنا أن كثيرين أدركوا أنهم خدعوا في وقوفهم مع البرهان وحميدتي من أجل ذلك الانقلاب عندما شاهدوا الآثار السلبية لمواقفهم حتى داخل حركاتهم مثل جبريل ومناوي الذين شهدت حركتيهما استقالات جماعية)
وأخيراً؛ إذا صح الاحتمال الايجابي لهذا التحليل هل يمكن القول : أن حمدوك فعلها كما تفعل الخيل الأصيلة حين تظهر في آخر اللفة ، أم أنه سيكون مجرد مغامر مفلس إذا صدق الاحتمال السلبي لهذا التحليل وبدا معه حمدوك ألعوبةً بيدي كل من البرهان وحميدتي؟
ذلك ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع والشهور القليلة القادمة من حكم حكومة حمدوك المرتقبة؟ .. ولنر