يتعين تسمية الاشياء بمسمياتها والاعتراف، أولا، بأن توقيع الدكتور عبدالله حمدوك علي اتفاق (من لا يملك لمن لايستحق) عني سقوطه سقوطا مدوّيا، وجرّده من آهلية إستمراره كرمز لقيادة ثورة ديسمبر المجيدة . فقد داس الرجل بقدميه علي أكفان شهدائنا، وبصق علي تضحيات جماهير شعبنا السوداني بلا وازع او تردد. لتجاوز هذه المرارة ينبغي، بادئا ذي بدء، تصديق وقوعها ويكفي دليلا ان مُسبب الفاجعة يملأ شاشات التلفزة ومحطاتها مكابرا علي فعلته مما يشئ بعدم إكتراثه رغم إعترافه ان برهان إنقلب علي الثورة!
بعد بلع هذا الحنظل المُر يتعين علينا المضي في درب الثورة ومغادرة محطة حمدوك فورا. مايلزمنا الان هو التنادي للتلاحم اكثر والاصطفاف حول مطالبنا الثابتة : إنهاء حكم العسكر وقيام حكم ديموقراطي. فالنواح والانهماك في السفسطة وتطريز مفروشات الديوانيات بحالة الإنكار State of Denial لن يجدي شيئا. أيضا، لن يفيدنا إختلاق التبريرات وتقديم تفسيرات قراءة الكف وتخريجات ” بله الغائب ” وهلوسات تفسير الغيب السياسي.
فلا إشاعات سُم فاغنر الروسي، ولا دعاوي التنويم المغناطيسي، ولا مزاعم جلسات الإجهاد النفسي، ولا فرضيات حمار النوم وكوابيس المشي الليلي ستغير الحقيقة الباردة.
كفانا إنكارًا.
فالثابت هو أن الدكتور عبدالله حمدوك ” إختار ” وبمحض ارادته رمي طوق نجاة لقتلة شعبنا وسعي لانقاذهم من حصارنا الغاضب ورفضنا لهم. فشق الصفوف ووقف بيننا وبينهم، رغم ان ضمير العالم كله إصطف معنا مفجوعا ومواسيا علي ما أظهروه من إصرار علي التقتيل بوحشية، والقمع بشبحية دامية في الظلام، فقطعوا النت والكهرباء! تحرك حمدوك قاصدا وقف مطالبتنا بالعدالة والقصاص منهم ولوقف قتلهم خيارنا من الشهداء السلميين الابرياء.
وّقت الحَجّاز مجيئه بدقة ، فوصل للقصر مع ظهر زغرودة الثورة وزمجرة براكين الغضب في ميدان جاكسون ظهيرة 21 نوفمبر . وبالرغم الذهول والهرجلة إلا أن عناية الله تداركتنا. فبدلا من إنشراخ صفنا وذهاب ريحنا، تصدي الشارع بوعيه المتميز للنازلة فساط الحجّاز بمايستحقه من عكاز رافض لوساطته. نعم، لقد لملمتنا المصيبة وأعادت لنا وحدتنا فرفضنا بحزم لا ريب فيه إتفاق الهزيمة . فبدلا من أن يفلح حمدوك في شق صفنا بجر حلفائه الجدد لبر الامان، سحبوه هم معهم الي لجة الغرق فتكوّم معهم وإنتحر سياسيا.
التبرير الذي يزّين به الدكتور حمدوك إتفاقه مع الانقلابيين فحواه هو
” حرصه” علي حقن الدماء. وهذا تبرير تالف ولا يقف علي ساقين.
فلو أراد (حقا) حقن الدماء، فلماذا لم يقبل بذات الروشتة التي عرضها عليه علنا الناظر محمد الامين ترك، ناظر نظارات البجا والعموديات المستقلة يوم 14 سبتمبر 2021؟
فذات الصفقة كانت بين يديه، بدون قتل او تتريس أو مواكب. لماذا لم يقبل بها آنذاك ويوفر للوطن 68 يوما من تعطيل لدولاب الحياة (١٤ سبتمبر – ٢١نوفمبر) ؟ ألم يك القبول بها سيجنب البلاد والعباد شر إنقلاب 25 اكتوبر الذي تحجج بذات منطق ناظر الهدندوة المطالب بهيمنة العسكر وحل الحكومة ولجنة التمكين وصرف كروت العضوية للكيزان لينتسبوا لخيمة الحكم الجديدة ؟ لو قبل حمدوك في سبتمبر لحقن (فعلا) الدماء ولما إرتقي قرابة الخمسين شهيدا ، ولوّفر كيْ حشا المئات من الامهات الثاكلات ولجنّب اكثر من 500 شابة وشابة مشقة الانتظار في صفوف العلاج الطبيعي وتكبد اعاقات جسدية ونفسية ستظل معهم وللابد !
عرض ناظر الهدندوة ، تجدونه ادناه صوتا وصوره، نصه :
(احسن يسرعو في حل هذه الحكومة وتكوين حكومة وطنية كفاءات وطنية وتكملة المؤسسات وتكون الحاضنة السياسية، حاضنة سياسية وتدافع عن الثورة يعني.)
(https://www.youtube.com/watch?v=dBfCBounjzg)
🔹ماذا تعني مغادرة قطار الثورة محطة حمدوك ؟
ببساطة تعني إمساك شوارعنا مجددا بالمبادرة والاستعداد لدرب طويل وشاق ومؤلم وحافل بالتضحيات – نعم وفيه المزيد من الدماء! ايضا، يجب ان تبقي عيوننا مفتوحة علي الاوليات والتركيز علي تفرعاتها المتسلسلة : إسقاط سلطة الانقلاب العسكري، تقديم القتلة للمحاكمات، تحقيق خيارات شعبنا في حكم مدني بكامل مؤسساته. بعد نجاح هذا الهجوم الثوري الارتدادي سوف نستكمل البرنامج بخلق أجهزة ومؤسسات تصون المسار الديموقراطي وعلي رأس المطلوبات إصلاح الاقتصاد وفرز شركات منظومة الصناعات الدفاعية وإلحاق المتخصص منها في النشاط التجاري المدني وترك العسكري والتسليحي منها للجيش.
فتصدير اللحوم وعصر الزيوت وشحن البصل والتنقيب عن الذهب والدوام باللبس الميري في البنوك ليس أعمالًا حربية أو جزءا من قسم الولاء ولايحتاج لترديد ” ولو أدي ذلك للمجازفة بحياتي”. ايضا، في اليوم التالي لإشراق الشمس، سنحتاج لمراجعة والغاء قرارات التواجد العبثي للمليشيات المسلحة في الساحات والميادين العامة ووسط البيوت والتجمعات السكانية والمدنية وذلك بإعداد خطط ومواقيت لتسريحها واستيعابها في القوات النظامية وفق عقيدة وقيم وطنية محددة.
🔹مسلسل (اليتيم علي مائدة اللئام) بطولة حمدوك والحقائق التي ستأتي :
حمدوك، وهو ينهمك في تكوين حكومة وعد بأنه سيعلنها خلال الاسبوعين القادمين، سوف يكتشف كثيرا من الوقائع التي تغافل عنها بينما الكل يراها رأي العين :
1- الوزراء التكنوقراط الذين يرغب في توزيرهم لعام ونصف سوف يفرون منه فرار الاصحاء من مرضي الجُزام . هنا، سيعلم ان التأريخ يدور حول نفسه وستتوالي علي بريده وهاتفه الاعتذارات ممن كان يعوِّل عليهم في قبول الانتحار معه! سيعتذر منه من يجيدون قراءة المشهد السياسي وجدرانه الآيلة للسقوط مثلما اعتذر هو لعمر البشير برسالته الشهيرة في أغسطس 2018 بعد ان نططت(أميرة الفاضل)، سمسارة الوظيفة الانقاذية الرفيعة وقبول مرشحها لوزارة المالية العمل مع ولي نعمتها عمر البشير . فبعد موافقته المبدئية جلس حمدوك التكنوقراطي مع نفسه، فقدّر ونظر ثم بصر ، فرفض! اذ تأكد له، تحليليا، ان ما يفصل مابين نظام عمر البشير والمقابر ماهي الا مسيرة قصيرة بالأقدام . فباع اميرة الفاضل وإعتذر رسميا يوم السبت 15 أغسطس 2018، قبل 4 أشهر بالضبط من إنفتاح ابواب الجحيم علي البشير ونظامه!
فبعد يوم كامل من انتظار وصوله وتأجيل مراسيم آداء القسم من الجمعة للسبت، وصلت رسالة اعتذاره للقصر الجمهوري وأعرب عن (استعداده التام لوضع كل خبراته في المجال الاقتصادي وخدمة الاقتصاد الوطني)!
خلال الساعات الماضية بدأنا نقرأ تبرؤ بعض التكنوقراط من “مجرد” ترشيحهم في قوائم مجهولة الاصل فاضت بها منصات السوشيال ميديا . فمثلا، كتب الدكتور ابراهيم البدوي، وزير المالية السابق وأقرب الوزراء لحمدوك الذي استقدمه خصيصا في 2019 لوزارة المالية وبضمانته، كتب البدوي متبرءا من رغبته العمل مع صديقه وابن ربوع كردفان ورفيقه القديم في دهاليز المنظمات الدولية وزاد في الكيل قنطارا قائلا (لن أوافق إذا عرض علي هكذا تكليف والذى سأعتبره بمثابة إهانة بالغة على المستوى السياسى والأخلاقي والمهنى)!! https://twitter.com/ibraelbadawi/status/1463231985992798209?s=24
أما وزير الصحة السابق، الدكتور اكرم علي التوم، فرد قائلا (لم يحدث ولن يحدث ان أفكر مطلقا بأن اتولي اي منصب دستوري او غيره في نظام الحكم الحالي في السودان).
2-غافل من يظن ان إستغفال المجموعة الدولية بالامر اليسير، ويمكن غش ” الخواجات ” وضخ ما تعهدوا به اموال فبدلا من تعضيد الانتقال الديموقراطي، السطو عليها بفهلوة واستجلابها لتثبيت دعائم السلطة الانقلابية! هذا، لعمري، هو عشم ابليس في الجنة، كما قالت جداتنا!
3-صحيح ان ماحصده حمدوك من صيت وسمعة وقبول كان امرا غير مسبوق لاي زعيم سياسي سوداني. وصحيح ان ذلك الصيت لم يكن ذي صلة بنبوغه في علم الاقتصاد، فلا هو شهدنا في سجلات الترشيح لنيل جائزة نوبل ترشيحا لزراعيا درس في مرحلة تالية الاقتصاد او ان احدا من ذلك التخصص الهجين ظفر بها. حمدوك مدين لقوي ثورة ديسمبر التي أتت به . وعليه، عندما يتأكد العسكر ان الشارع قد دفع “محضونه” عند صدره، ورمي يافطات (شكرا حمدوك) في نيران اللساتك، ستبدأ إنتهازية مراهنته عليه. سوف يوظفونه بخبث وذكاء للقضاء علي ما تبقي منه تماما مستفيدين من وصفه كرئيس وزراء مدني. سيستخدمونه للتغطية علي جرائم اجهزتهم الباطشة في قمع الايفاع وشباب الثورة، وهي فرضية مرشحة للتأجج والاشتعال خلال الاسابيع القادمة. دور حمدوك الجديد هو الظهور المتكرر علي الشاشات يدعو الشعب للتهدئة متي ما بلغ الغضب الحناجر جراء المهام القذرة والمجازر التي تنفذها فرق القتل. بالمختصر، سيصبح حامد كرازاي الانقلاب وسيوكلون له مهام تبخيس المحتجين السلميين وربما وصفهم بالمندسين والقتلة وتزويده بحكاوي وخوارق قصص (الخيال العلمي) كالبنت التي ستخرج رشاشا من ربطة شعرها ومقتل 15 في انهيار دموي لسقالة من عجين سيقا.
4- امام ضعف حمدوك القيادي، المعلوم سابقا والمكتسب حديثا ، سوف تهيمن السلطات الانقلابية وتضع اليد الاشرافية المباشرة علي كافة الوزارات السيادية والاجهزة التنفيذية ذات المدخول الريعي اليومي كالضرائب والجمارك وغيرها.
5- سنشهد في الفترة القادمة المزيد من الثقوب والتفسيرات المختلفة لبعض بنود الاتفاق الاطاري الفضفاض الذي وقع عليه الرجل . فأركان استراتيجية السلطات الانقلابية ستعمل علي الاستفادة من عدم وجود ضامن او مراقبا للاتفاق سواء أكان شريكا دوليا، او إقليميًا، فيبرطعون في فرض تفسيراتهم وقراءتهم لكل بنود الاتفاق التي تعمدوا صياغتها بضبابية. لذا سنراهم ينفذون اولا مطمئنين لحقيقة أنهم (لا يُسألون)، والشكر أجزله لضعف الشريك وإغترابه عن شارعه الذي كان !
6- سحب كل الملفات الحساسة من حمدوك وعمل وزارته الديكورية واهم تلك الملفات سد النهضة، والعلاقات مع بلدان المحور ، الاتفاقات الامنية والسياسية والعسكرية مع اسرائيل وروسيا.
⚫️⚪️⚫️إقرأ في الحلقة القادمة ⚫️⚪️⚫️
🔴كيف ولماذا اصبحت واشنطن أهم عنصر في المتشابكة السودانية، ماهي الخيارات وماذا ستفعل (قراءة ميدانية من داخل أجهزة القرار) ؟
aamin@journalist.com
الخميس -25 نوفمبر 2021
واشنطن