أشهد أن الجغرافيا وحدها قيَّضت لي يومذاك أن أكون أحد حاضري تلك المشاهد التراجيدية الموجعة. كانت مشاهد أعادت للأذهان سيرة جلاوزة الأمويين والعباسيين، وهم يجهزون السيف والنطع والدماء السائلة مدرارا بتطاير الرؤوس. وإن كانت تلك أيام مأساوية في التاريخ الإسلامي، فأيامنا هذه التي انكسفت فيها شمس أهل السودان وانخسف القمر، لا تقل سوءاً عنها. يومذاك تجسد (عنف البادية) في أسطع صوره. وتسيَّد الموت الذي نشر أجنحته السوداء كفاحاً في تلك البقعة الصغيرة من أرض المليون ميل مربع. وبعد أربعة عقود زمنية تراكمت فيها الأحداث طبقاً عن طبق، ها هي تطل من ذاكرتي بكل ميلودراميتها الموغلة في الفجيعة، كجلمود صخر حطَّه الدهر من علٍ. وعليه، فما أعجب تصاريف أقدار هذا الوطن الصابر أهله، لكأنهم ارتكبوا من الموبقات ما عجزت عنه أنامل ملائكة الحساب والعقاب عن تسطيره، , فأصبحوا في كل عام يُرذلُون!
(2)
قبل أيام مضت طافت علينا الذكرى الحادية وأربعين لانقلاب يوليو 1971 الذي تزعمه الرائد هاشم العطا. وكما هو معلوم فهو انقلاب عسكري على انقلابٍ عسكري آخر، كان قائماً في 25 مايو 1969 تقلَّد فيه يومذاك اللواء جعفر نميري مقاليد السلطة، وجلس القرفصاء على أنقاض نظام ديمقراطي، وإن كان كسيحاً لكنه لا يبرر الخطيئة. لم يقل الحزب الشيوعي السوداني مدبر الثاني، ما قاله عن صنوه الأول بعبارته الجدلية المأثورة (تهمة لا ننكرها وشرف لا ندَّعيه) فبغض النظر عن فجوره أو تقواه، تحمَّله بكل راياته الحمراء التي تضرجت بالدماء فيما بعد. حيث قدَّم بعض قادة الحزب من العسكريين والمدنيين أرواحهم فداءً لما آمنوا به، سواء في إطار الفكرة، أو اندياحاً لغاية توسلها خلاص الشعب السوداني من حكم ديكتاتورية الفرد. وأياً كان التفسير في الحدث الموجع، والذي اسماه الحزب في أدبياته (أسبوع الآلام) فقد كانت ملحمة تاريخية فريدة، وضعت بصماتها على صفحات التاريخ السياسي السوداني، وما زالت تداعياتها تتناسل عاماً بعد عام.
(3)
عوداً على بدء قلت إن الجغرافيا وحدها هيأت لي أن أكون شاهداً على جزء من أسبوع الآلام ذاك. وأعني بذلك وجود (سلاح المدرعات) بالقرب من ضاحية الشجرة/ الحماداب، حيث ولدت وترعرعت، وكنت شاهداً في ميعة الصبا لحظة الحدث الداوي. وبطبيعة الحال كنا نعرف بعض الجنود الذين يقفون في البوابة، فكانوا يسمحون لمن يرغب من أهل الحي، بالدخول خلسةً إلى الساحة التي أضحت مسرحاً كئيباً للمحاكمات الجائرة، تلك المحاكمات التي أعادت للأذهان سيرة محاكم التفتيش في القرون الوسطى، والتي صُممت لمحاكمة الضمائر تحت ذريعة (محاربة البدع الهرطوقية) ولكن هل كان ما حدث يومذاك هرطقة تستوجب جز الرؤوس، لا سيِّما، وأن الجلاد نفسه نهى عن خلق كان قد أتى بمثله؟ تماماً كالعصبة ذوي البأس الجاثمة على صدورنا، يوم أن نحرت رقاب ثمانية وعشرين ضابطاً في العشر الأواخر من رمضان وعشية عيد الفطر!
(4)
كانت المشاهد أكبر من استيعاب عقلي الصغير، فبدت لي كأنها محض (بروفة) ليوم القيامة. كنا نصحو فجراً على قعقعة الرصاص، ونركض بأنفاس لاهثة صوب سلاح المدرعات. وكانت تتقاذفنا مشاعر شتى، لكنها بطبيعة ثقافة التسامح السودانية، كانت تتعاطف مع الضحية وتضمر بغضاً للجلاد. كنا عندما ندخل من البوابة الرئيسية، نتجه مباشرة يميناً نحو (الدروة) ولا أدري لماذا سُميت كذلك؟ هل هي كلمة عربية تفرنجت أم عجمية دُجِّنت. ولكن الذي كنت أعلمه بوعيٍ تام، هو أننا ونحن يفعاً كنا نغشاها في غدونا ورواحنا لنمارس فيها بعض حركات كمال الأجسام الرياضية (الجمباز) ولا زلت أذكر ذاك الحبل الطويل الذي يتدلى في وسطها، كنا نلهو به تنافساً، كما يفعل الجنود أنفسهم في التدريب. غير أن الذي لم يخطر ببالي مطلقاً، هو أن يصبح ملهى البراءة ذاك، مسرحاً لإزهاق أرواح بشر.
(5)
المشاهد التي كنت أطالعها أمامي، كانت بالفعل كابوساً (كافاوياً) فالساحة تضج بالخلق، عسكريين ومدنيين. جنود أخذتهم العزة بالإثم وهم يتبارون في إظهار ولائهم، بإطلاق زخات من الرصاص في الهواء. وثمة آخرون تبدو على سيمائهم علامات همٍ ثقيل، لكنك لا تدري لأي الفريقين يتبعون. فالذهول كان سيد الموقف، والدهشة هي القاسم المشترك بين الحاضرين. طاولات صغيرة تناثرت في الساحة، يجلس خلفها ضابط وأمامه متهم، تختلط الصورة على ناظرها فلا يعرف من يحاكم من؟ صورة عبثية اختصرت هيبة القضاء الواقف والجالس كما يقول القانونيون. بعضهم يأخذ أقوال الضحايا، وآخرون يصدرون الأحكام حيث يُقاد المتهم نحو (الدروة) كما تُقاد الذبيحة في يوم الفداء العظيم. كنت اتنقل بين الحاضرين، كطفل ضاع من أبويه في لحظة زحام. كنت أصغي السمع لعلني أظفر بشيء يصف حقيقة ما حدث من أفواه المتجادلين، وهناك آخرون وجدوا مناخاً خصباً لإطلاق العنان لمخيلاتهم، فباتوا يحكون قصصاً مشحونة بكمٍ هائل من التشويق، لجذب أنظار مستمعين تحولقوا حولهم، بعيون جاحظة وأفواه مغفرة، تعبيراً عن الدهشة.
(6)
فجأة ساد المكان صمت أشبه بصمت القبور، واتجهت الأنظار نحو شخص فارع القوام يرتدي قميصاً أبيضاً، وقف منتصب القامة، وصار يجوس بناظريه يميناً ويساراً كأنه يتأمل الصورة الفوضوية التي أمامه، وفمه يحاول أن يفتر عن ابتسامة، تبدو أقرب للسخرية. أشعل سيجارة وبدأ ينفث دخانها في الهواء، لدرجة يحسب فيها ناظره أنه ينفث معها زفرات حرى. سألت من كان حولي فقالوا إن ذلك الشخص هو بابكر النور. ثمَّ ازداد الصمت عمقاً واتجهت الأنظار نحو قادم آخر، يرتدي بدلة لونها (قمرديني) وكان يزمجر بكلمات غاضبة تخرج كالحمم من فمه. فسألت أيضاً من كان حولي، فقالوا إنه فاروق حمد الله، وبرغم الشعور الذي يسيطر على المرء يومذاك وينبؤه بأن لا أحداً يعرف أحدا في ذاك المكان، إلأ أن ذكر أسماء الاثنين كان كفيلاً بلفت الانتباه نحوهما، وتركيز النظر فيهما ملياً، لكأنهما كائنات هبطت من كوكب آخر!
(7)
لم انتظر من الواقفين شرحاً مثل قصص الإثارة التي يتبرع بها سائر أهل السودان في مثل هاتيك المواقف. فبحكم اطلاعي البسيط كنت مدركاً لشذرات من سيرة الرجلين، باعتبار أنهما أقيلا من المجلس الانقلابي الأول. رأيت بابكر النور يخلع ساعته، ويعطيها لأحد العسكريين وهو يتحدث دون أن نتبين ما قال له. ازداد الهرج والمرج عندما وقفت عربة مكشوفة الظهر (إسكاوت) كما يسمونها، وحملتهما معاً. وفجأة أطلق بابكر النور العنان لحنجرته وهو يهتف مرة (عاش السودان حراً مستقلاً) ومرة أخرى (عاش الحزب الشيوعي السوداني) أما فاروق حمد الله، فقد زادت ثورته وطفق يصف الحال بالغدر، ويذكِّر الجلاد بأنه هو من صنعه، وصنع الثورة التي جاءت به رئيساً. وأنا بين هذا وذاك بت كأنني أعيش كابوساً مؤرقاً، كيف جعل هؤلاء سوانح الموت أقرب إلى طعم الحياة؟
(8)
تحركت العربة الإسكاوت وهي تشق الجموع إلى نصفين، في ظل صمت ساد وملأ أرجاء المكان. وأصبحنا لا نسمع سوى صوت الرجلين يجلجلان حتى تكاد تيقن أنه وصل إلى عنان السماء. انطلقت العربة مخلفة غباراً كثيفاً من حولنا، وركضنا خلفها وقد يممنا وجوهنا شطر الدروة، باعتبارها المكان الذي شهد إعدام السابقين، لكن العربة لم تتوقف، بل عبرت البوابة الخارجية واتجهت شرقاً يتبعها ذاك الغبار الكثيف. فعلمنا بعد حين أنها اتجهت نحو منطقة (الحزام الأخضر) التي تقع على بعد أميال قليلة. وهناك أعدما رمياً بالرصاص. ثمَّ مضى التاريخ مثقلاً بأحزانه السوداوية الجسام. أما أنا فقد أصبحت تلك الدروة بالنسبة لي أشبه بالكابوس، في كل مرة أمر بها أسمع صوت الرصاص يكاد يثقب طبلة أذني. وأرى ذاك الغبار الذي علق في الفضاء يرسم وجوهاً مبتسمة للذين أرتوى ذاك المكان بدمائهم الطاهرة.
(9)
غير أنه منذاك الزمن صارت نفسي مثقلة بتساؤلات تحاول أن تجد إجابة شافية، وهي التي نهض عليها وعينا السياسي فيما بعد ونحن نتساءل ما الوطن وما الوطنية؟ كيف يمكن أن يعدم المرء لمجرد اختلاف الرأي؟ ما معنى أن يتمسك المرء بمبادئه حد الموت؟ ما الفرق بين الشجاعة والجبن؟ تساؤلات جمة خلقتها أحداث يوليو 1971 وجعلت بيني وبين الشيوعيين السودانيين جسوراً من التقدير والاحترام، رغم اختلاف مسارب ومشارب السياسة. تلك أحداث مضت واختزنتها الذاكرة وقد تقادمت عليها السنين. وفي واقع الأمر ما كان لها أن تظهر لولا إنني شاهدت السيدة الفاضلة خنساء عمر صالح سوار الدهب زوجة الشهيد بابكر النور، تتحدث مؤخراً وتدلي بشهادة تاريخية هامة في تسجيل صوتي، قام به صديقنا عدلان عبد العزيز بمحض الصدفة. وقد يعجب الكثيرون كيف لشهادة كهذه لا ترى النور إلا بعد أكثر من أربعة عقود زمنية. بيد أنني للتاريخ أذكر الأستاذة خنساء سألتني مراراً نشرها، لكن كان هناك دائماً ما يحول دون ذلك، وكأنها لا تملك من أمرها نصباً.
(10)
السيدة الخنساء عمر صالح سوار الدهب، مثال للسيدات السودانيات اللائي اكتوين من الديكتاتوريات وأفعالها، وقدمن تضحيات غالية. فحينما مضى رفيق دربها إلى رحاب ربه، كان قد ترك لها خمسة أطفال، ووصية مكتوبة بخط أنيق في علبة سجائر، خطَّها زوجها الشهيد بعد أن أيقن أن سيواجه الموت لا محال. وبرغم هول الفكرة إلا أن الوصية كانت متماسكة وتنضح شجاعة نادرة. ولا شك أنها منحتها تلك القدرة على تجاوز الصعاب ومحن الدهر. ولا شك أيضاَ أنها كانت ملهمة للأطفال الخمسة بعد أن شبوا عن الطوق. وأصبحت مصدر فخر بوالدهم ورفاقه، الذين واجهوا الموت في ملحمة بطولية كما أبطال أساطير الإغريق.
(11)
لقد كتب الكاتبون، وأرخ المؤرخون، واستوثق الموثقون، لكن تاريخنا حتى الحديث منه، ما يزال نهباً للأهواء، وتقلب الأمزجة ومعايير الشخصنة. والمحزن ألا يجد الاهتمام اللائق من صانعيه. مع العلم بأن وقائع التاريخ يصنعها حتى الذين يجلسون على قارعته، سواء كانوا من الأخيار أو الأشرار. وقد لا يستقيم عقلاً أن الأمة السودانية التي مرت بأحداث هائلة في ماضيها وحاضرها، والتي شارك فيها الكثيرون، لم يوثق منهم تجاربه سوى بضع أفراد يستحي المرء في ذكر عددهم. ولهذا ينبغي أن تفتح شهادة الخنساء الباب للإجابة على السؤال الذي نتجاهله ونتحاشاه رهبة، والقائل إلى متى يظل تاريخنا مخبوء في الصدور؟ وعلَّام تتأخر شهادة تاريخية كهذه لأكثر من أربعة عقود زمنية. وإن كانت الأخيرة هذه إحدى خطايا الحزب العريق التي ينبغي أن يُسأل ويُساءل عنها!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
- الكاتب: صحافي مقيم في الولايات المتحدة
faldaw@hotmail.com