الكتابة عن كابلي فكرة ألحت علي قبيل عودته الأخيرة إلى البلاد قادما من الولايات المتحدة في فبراير الماضي .. وكنت أريد أن أترجمها في سطور لتقرأ بالتزامن مع احتفاء الوسط الفني والثقافي بتلك العودة ، لكنني عدلت عن الفكرة في حينها بعد أن بدا لي أنني بحاجة لمتسع من الوقت للابحار في نهر إبداعه المتدفق .
ما أن تبدأ في الكتابة ، حتى يتبين لك أن الإحاطة بعالم من هم في قامة كابلي المديدة ، أصعب مما بدا لك حين جالت الفكرة بخاطرك لأول مرة ، فأنت أمام فنان متعدد المواهب والقدرات يعتمر عدة قبعات:
كابلي المغني
كابلي الملحن
كابلي الشاعر
كابلي الباحث في التراث
كابلي المثقف الموسوعي
فات كابلي “الكبار والقدرو ” وأتعب من جاء بعده بهذا التعدد ، الذي أتاح له تنوع المناهل والمنابع ، فغاص بمهارة في أعماقها ليصطاد أنفس الدرر وأثمن اللآلي وأغلى الجواهر ، ويرصع بها جيد الأغنية
السودانية ..
تفرد كابلي بفعل: نشأته الأولى بمدينة سواكن الميناء القديم الجديد ، ما جعله منفتحا على عوالم الابداع انفتاح الموانيء على العالم بأسره .. وتجواله الباكر في عدد من مدن البلاد ما جعله يقف على ثروتها الأدبية ويدرك قيمة كنوزها المحفزة على التنقيب .. واطلاعه الواسع ما فتح له آفاقا أوسع ودخول مناطق غير مطروقة لمجايليه من الفنانين .. وأخيرا الصحبة المثرية ممثلة في مجموعة “أخوان الصفا” التي ضمت شعراء فحول رفدوا تجربته بأرصن الشعر وأعذبه وقد يكون لها تأثيرها في اختياراته من عيون الشعر السوداني والعربي.
•••••
يطل كابلي علنا – لأول مرة – في حضرة الزعيم جمال عبدالناصر أثناء زيارة له للخرطوم في العام ١٩٦٠ ، ب ” أنشودة آسيا وأفريقيا ” للشاعر تاج السر الحسن وهي تمجد حركة عدم الانحياز الوليدة وقد كان الرئيس المصري أحد مؤسسيها ، وتوثق لأخوة السودان ومصر وتبشر باجتثاث الأعادي من الوادي .
يرتاد الثريا في زمن قياسي – بدفع الظهور الأول الداوي – برائعة صفيه الشاعر صديق ” ضنين الوعد ” لتنساب الألحان شلالا رويا :
إن يكن حسنك مجهول المدى
فخيال الشعر يرتاد الثريا
كلما أخفيته في القلب
تنبيء عنه عيناك ولا يخفى عليا
أنا إن شئت فمن أعماق قلبي
أرسل الألحان شلالاً روياً
•••••
يحلق وصفيه الآخر الشاعر الحسين الحسن في فضاء المفردة الفصيحة .. يميلا مع “طائر الهوى”.. يسحرا الألباب ب “إني اعتذر ” .. قبل أن يستريحا في مجلس فوق السحاب والبروق تبرق ، فلا تملك غير أن تطرق وأنت تكاد لا تصدق :
أهذه الحروف ؟
كل هذه الحروف
خطها بنانك
المنمق
المنغم
المموسق ؟
يبقى في مدار الفصحى – هذه المرة – مع الشاعر والإذاعي والأكاديمي الدكتور حسن عباس صبحي .. يسائل ملهمته.. ماذا يكون ؟
يحتفي بوحيدة عبدالعزيز جمال الدين ” لو تصدق” ويضع لها لحنا يناسب شباب العمر المفتق والكلام الذي لا يحكي بنفس الحروف .
•••••
ينتقل من فضاء الفصحى ، إلى سماء مفردة أم درمان المعتقة .. يهبط بالموردة ، في ضيافة اللواء والصحافي عوض أحمد خليفة .. ليهديا الناس ثلاث أغاني : بعادك طال .. روعة الليل .. كيف يهون عندك خصامي ؟
يغشى العباسية بعد الموردة ، فيسهر مع التجاني حاج موسى في “عز الليل” .. ساعة النسمة .. ترتاح على هدب الدغش وتنوم ..
“تكبر كراعك ” من الفرح – وأنت تواصل التجوال معه في ربوع أم در – عندما يعثر بعد بحث مضن على الشاعر المتمرد عمر الطيب الدوش “راجع منتهي من عن طرف البلد” في طريقه ليلحق ب “الدلوكة التي دقت ويركز شان البت سعاد” وفي الوقت ذاته يجلد العمدة المتماهي مع السلطة ويلهب ظهره بسياط الكلام:
قت ليهو يا عمدة اختشي
مسؤول كبير في الحلة غير الله انعدم
ما شفنا زول سكّت جهال
ما شفنا زول رضع بهم
يقدل مع الخليل “حافي حالق ” بالطريق الشاقي الترام .. من فتيح للخور للمغالق ..
من علايل أب روف للمزالق
••••
يسافر بنا إلى شمال كردفان ، مقتفيا أثر ابن أم درمان الآخر الناصر قريب الله في رحلته إلى “أم بادر ” حيث الماء والخضرة وتلك الحسناء التي تجني ثمر السنط في انفراد الغزال .
يغشى مضارب الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي فيشجي مسامعنا بخريدته ” عهد جيرون ” التي تحدث عن عزة النفوس الكبار الموروثة عن آباء صدق من الغر الميامين .. لا ترضى من الدنيا وإن عظمت إلا الذي بجميل الذكر يرضيها ..
يعود إلى شرقه الحبيب ، فيحل مع الشاعر توفيق صالح جبريل في صبح طلق المحيا نديا ، بكسلا .. حديقة العشاق وجنة الإشراق .
يزور القضارف بعد كسلا، فيأخذك مع الصحافي الشاعر ابراهيم عوض بشير إلى “مسرح الآرام” والظباء النافرة وسهامها التي تدمي القلوب الطاهرة ، قبل أن يبكي معه ذكرى”سلمى ” التي أجرت مدمعه شعرا :
أنا أبكيك للماضي
وللعهد الذي مرّ
وللألحان مرسلة
تصوغ الفن والسحرا
وللأزهار في الوادي
حيارى ترقب الفجر ا
•••••
يغني من أشعاره وألحانه لمروي ، زينة وعاجباني ، حسنك فاح مشاعر ، قمر دورين ، يا زاهية ، ومرسال الشوق قبل أن يهدي الأخيرتين لعبدالعزيز محمد دأوود وأبوعركي البخيت.
مرسال الشوق يا الكلك ذوق
أغشى الحبان في كل مكان
قول ليهم شفنا جبل مرة
وعشنا اللحظات حب ومسرة
بين غيمة تغازل كل زهرة
وخيال رمانة على المجرى
••••
يتلفع بثوب شيخ العرب ، ليغوص في بحور تراثنا الشعبي ، مستودع قيمنا السمحة .. الجود والكرم والشجاعة ومراعاة حق الجار ونصرة الضعيف والحزم مع من يتجاوز الحدود ..
“يتمم كيفك” بتلك الرمية عن الصحبة الحقة والكرم الأصيل التي” تكلب شعرة جلدك” عندما تسمعها لأول مرة:
جيتك بامتثال صاحبي المتمم كيفي
ابراهيم ثبات عقلي ودرقتي وسيفي
مطمورة غلاي مونة خريفي وصيفي
سترة حالي في جاري ونساي وضيفي
يرحل إلى بادية كردفان ليتغنى بجسارة
وشجاعة خال فاطنة “البدرج العاطلة ” :
أب كريق في اللجج
سدر حبس الفجج
عاشميق حبل الوجج
أنا أخوي مقلام الحجج
يعرج على شندي، حيث بنونة بت المك ترثي أخاها الفارس عمارة ، وهي ما كانت تريد له أن يموت على فراشه بل تتمنى له أن يلاقي الموت في ميدان المعركة ب ” سيفه البحد الروس ” :
ما دايرالك الميتة أم رماداً شح
دايراك يوم لقا بدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحي على سيفو البسوى التح
يهتدي إلى خيمة الحاردلو في البطانة ، ينتقي من قوافيه تلك الرباعية الذائعة من مرافعته المشهودة في مجلس الخليفة عبدالله التعايشي عن عمه الزعيم عمارة أبوسن الذي جمع بين الشجاعة والكرم :
ده إن أداك وكتر ما بقول أديت
أب درق الموشح كله بالسوميت
أب رسوة البكر حجر شراب سيتيت
كاتال في الخلا وعقبا كريم في البيت
يشنف آذانك من داخل خيمة أمير شعراء البطانة برميتين عن قصبتين: قصبة “مدالق السيل” وقصبة “الوادي المخدر درو ” التي أبقى سرها مكتوما عندما لم يجد من يدرك معناه :
يا خالق الوجود أنا قلبي كاتم سرو
ما لقيت من يدرك المعنى بيهو أبرو
قصبة منصح الوادي المخدر درو
قعدت قلبي تطويهو كل ساعة تفرو
لا يودع الحاردلو إلا بعد أن يقف على السبب الذي منعه من حضور العيد “الجاب الناس وما جابو ” بين أهله وعشيرته ما جر عليه لوم شقيقه عبدالله :
الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوهو ناس عبدالله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك أحضرو
درديق الشبيكي البنتو فوق سدرو
“يعدي” إلى الضفة الأخرى للنيل الأزرق ، فيجول في وسط وشمال الجزيرة التي تحدث عن بطولات نادرة وقيم راكزة منذ القدم .. مد يد العون للجار والعشير .. واتساع مظلة الحماية للغني والفقير :
متين يا علي تكبر تشيل حملي
وإياك علي الخلاك أبوي دخري
للجار والعشير الكان أبوك بدي
للغني والفقير الكان أبوك حامي
•••••
يهل ربيع الأول .. يلبس جبة الدراويش الخضراء.. يسوقك مجذوبا في صحبة المجذوب ، لإحياء “ليلة المولد” في ميدان عبدالمنعم – ذلك المحسن حياه الغمام –
والخيام قد تبرجن وأعلن الهيام :
وهنا حلقة شيخ يرجحن
يضرب النوبة ضربا
فتئن وترن
ثم ترفض هديرا
أو تجن
يتزيا بزينا القومي ، يذرع ربوع وسهول ووديان البلاد شبرا شبرا ، مع الشفيف الشريف زين العابدين الهندي ولوحته الزاهية الألوان الجامعة لتاريخ وجغرافيا وحضارة السودان ” أوبريت الهجرة والاغتراب ” :
منو الزيك
ببز الدنيا
موية وزاد
منو الزيك
ضروع وزروع
ونيل مداد
•••••
يمد مع النيل باتجاه شمال الوادي، يمر بأسوان موطن عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد أحب أدباء شمال الوادي لأهل جنوبه .. يقطف من حديقته المورقة :
شذى زهر ولا زهر
فأين الظل والنهر
ربيع رياضنا ولى
أمن أعطافك النشر
يصدح برائعة أمير الشعراء .. صداح ..ملك الكنار وأمير البلبل .. وكأنه يقول للعقاد ما كنت منصفا بوصفك لشعر شوقي بأنه “شعر بلا روح ” .
يبحر مع الملاح التائه علي محمود طه .. يعبر المتوسط .. قاصدا البندقية.. عروس البحر .. يسري مع “الجندول” في عرض القنال ، فتسري النشوة في “أذانك ” :
آه لو كنت معي نختال عبره
بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبرة
حلم ليل من ليالي كليوباترة
•••••
يغوص في بحر الشعر العربي القديم .. يصطاد تلك اللؤلؤة الثمينة .. “نالت على يدها” ،التي اختلف النقاد في نسبتها ليزيد بن معاوية ، لكنهم اتفقوا على فرادتها وتوقفوا عند جمعها خمسة تشبيهات في بيت واحد اعتبروه أبلغ ما قيل في وصف الحسان :
وأمطرت لؤلؤا من نرجس
وسقت وردا
وعضت على العناب بالبرد
ينقب في ديوان العرب ، كأنه يستحضر مابين أبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني من تنافس على الفوز بحظوة سيف الدولة الحمداني، وكأنه يريد أن يبقي جذوة المنافسة متقدة ، تاركا الحكم للمستمع .. فيختار من ديوان الأول :
أسارقك اللحظ مستحييا
وأزجر في الخيل مهري سرارا
وأعلم أني إذا ما اعتذرت إليك
أراد اعتذاري اعتذارا
وينتقي من ديوان الثاني الذي جمع بين الفروسية في ميداني الشعر والقتال قصيدته الأشهر “معللتي” :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
لم يتهيب التغني بالقصيدة التي شدت بها أم كلثوم ، مثلما لم يثنه تلحين وغناء الموسيقار محمد عبدالوهاب لقصيدة الجندول من الترنم بها.
•••••
يهديه حسه القومي العربي ، إلى التغني لفلسطين يوم أن كانت قضية العرب المركزية قبل أن تركب العواصم العربية – وآخرها عاصمة اللاءات الثلاث – قطار التطبيع ، وإلى تمجيد الثورة الجزائرية وتلك المناضلة التي لم تبلغ سن العشرين واختارت جيش التحرير .
أغلى من لؤلؤة بضة
صيدت من شط البحرين
لحن يروي مصرع بضة
ذات العينين الطيبتين
•••••
تتأمل – في خاتمة المطاف – في غزارة المنتج الفني لكابلي وجودته العالية .. تسائل نفسك مرة أخرى وتبحث عن أسباب إضافية تقف وراء تفرده وجيله الذي أنتج تلك الأعمال العظيمة.. لا يطول تأملك .. تتذكر استنتاج للدكتور النور حمد في كتابه الموسوم “مهارب المبدعين .. مفاده أن الإبداع في الستينيات والسبعينيات هو حصاد لثمار ما بذره جيل الرواد في العشرينيات والثلاثينيات .
رحل اخر العناقيد…..الفن الاصيل والكلمات الرصينة والشعر الرصين…والكلمات المموسقة…رحم الله الكابلى شاعر الوطنيه والغزلية والتراثيه والجمال…..