جلسة للوطن : شاملة جامعة النجبا اللباب طلب مني اتحاد الكتاب السودانيين في فبراير 1989 أن أنوب عنه في تقديم الفنان الموسيقار عبد الكريم الكابلي الذي خصنا بتقديم مطولته الغنائية “ليس في الأمر عجب” في حفل الاتحاد بالاستقلال ولأول مرة. ونشرت خطبتي بعنوان ” جلسة للوطن : شاملة جامعة النجبا اللباب”. لقد كنت في أوائل الستينات أحضر تقديم الفنان عبد الكريم الكابلي لأغنيته “المولد” للشاعر الحاذق محمد المهدي المجذوب في فناء الندوة الأدبية بأم درمان لمؤسسها طيب الذكر عبد الله حامد الأمين. وشعرت بشيء من الميزة أن خصنا الكابلي بأمرين. أولهما أنه أختار قصيدة لواحد منا (الأدباء) في وقت كان شعر الأغنية قد أصبح فصيلاً أقرب إلى أهل الغناء منه إلى أهل الأدب. وثانيهما أنه قبل أن نكون شهوداً حضورًا في تدشين “المولد” مغناة. واستقر عندي أن بعض الغناء تظاهرات لكونه تحالفاً لتعساء وتضامناً بين منبوذين لحبهم المستدير للوطن. ليس وطن الحكم والأسلاب والانتخاب والانقلاب وهلمجرا ولكنه الوطن كوحدة وجود مثل نملة الشاعر التيجاني يوسف بشير التي في رقتها رجع صدى الإله: هذه الفكرة المتعالية المتجاوزة. وحب الوطن في مفهوم أهل وحدة الوجود من الوطنيين يبدأ بما نحسبه روتيناً. يبدأ بـ “قدلة” المغني خليل فرح (ت 1932) المأثورة: قدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الـشـاقيه الترام أو ربما بـ “جمعة جامعة” في قوله مادح المهدية الفذ، أحمد ود سعد الذي رثى كيان المهدية الذي هدته جحافل الاستعمار (1898): دوب لي جمعتهم (اجتماعهم) وصلاة جمعتهم دوب لجلستهم ومؤانستهم قال العالم الشاعر عبد الله الطيب: “الإنسان كثير بأخيه”. وتكاثر الكابلي بنا وتكاثرنا به في تلك الليلة في مدينة أم درمان وهو يشجينا بـ “المولد”. بدا لي وقتها، وكنت من ناشئة التقى في الأدب، وكنت حديث عهد بأم درمان، وما أزال، أننا بـ “المولد” قد فتحنا بالقصيدة الكون السوداني الموطؤ بالدكتاتورية النوفمبرية (نوفمبر 1958) وهنا نحن نلتقي بالكابلي بعد نيف وعشرين عاماً في تظاهرة أخرى من أجل “ليس في الأمر عجب”. في أقرب المواضع إلى أم درمان، وأكثرها استهواء لأفئدة شعراء أغنية الوطن الكامل: في مقرن النيلين الأبيض والأزرق، مقر اتحاد الكتاب. بدا لي أن هذا التضامن أصل في مثل الذي يحاول الكابلي اليوم من أغنية الوطن الممتنع. ونظرت في كتاب “ملامح من المجتمع السوداني” للمؤرخ الأدبي الذرب المرحوم حسن نجيلة فرأيته أطَّر لصوت المغني خليل فرح بفصول سماها “بين الجد واللهو”. وهي دراسة أولية جداً في علاقة “القعدة” (مجلس الشرب والندامى) كشكل من أشكال التنظيم والتضامن الاجتماعي في الحركة الوطنية وأصوات الوطنية في الشعر والغناء. فقد كانت الصحبة تحالفاً، والوطن نخباً، والنخب امرأة، والمرأة “عزة”، وعزة هي الوطن: نحن صُحبة وإخوان نجاب لي دُعانا المولى اسـتجاب جلسة كانت ما ليها باب شاملة جامعة النجبا اللُباب وكانت “القعدة” أُنساً ولكنها أيضاً موعد مضروب للأداء السياسي يتأخر بعض من حضرها لتوزيع المنشورات. وكان الفتية المعجبون بأنفسهم من فرط ودهم المستدير يحسنون الحديث والصمت معاً: إن مرقنا [أي من القعدة] السر في الحجاب وإن قعدنا إخوانك عجاب وكان لهم هذر تآخى فيه الكأس والوطن: خبي كاسك ما ينوبنا ناب كلو خشم [باب] المركز ذئاب وكانت الشلة حزباً لا بل فيلقاً: مُـتشـابهونَ لـدى العِـراكِ كأنَّما نبتتْ رماحُهُمُ مع الأجْسادِ كان الوطن غائباً في ثنايا الاسـتعمار. وكانت المرأة غائبة في لثامها الاجتماعي. وفي الإبداع ليس الغائب [قفا] شجرة كما هو في المثل السائر. الغائب في الإبداع ينتقم لغيابه. ولذا كان الوطن عاطفة باثولوجية عالية. وكانت المرأة حضورًا ميتافيزقياً عالياً في إبداع العشرينات من هذا القرن. اسمع “عزة” الخليل، أغنيته، وأناته الحرى لتقف على ما أعنيه بالعاطفة الباثولجية، واسمع أغاني “حقيبة الفن” لتلك الفترة لترى النساء غير الحقيقيات المصنوعات من محض التشهي ومن باب “البنت” في اللغة. وكان الجيل الرجالي في حاجة إلى بعضهم البعض جداً، وإلى تزييت اجتماعي من الراح بنت الكرم ليتحمل كل هذه الغيبات التي تثأر لنفسها. ولذا كان التضامن جذرًا قديماً في مثل هذا الحب المتهافت للوطن مثل الذي نحاول الآن في “ليس في الأمر عجب”. وإننا لنتضامن مع الكابلي جداً لأن اللغة التي هي عدتنا ككتاب ترتاح إلى خارطة مخارجه الفصيحة. ولأنه أخرج أثقال الأغنية السودانية كلها، غثَّها وسمينها، فأرَّخ لها بصوته الفريد في عشق للوطن آسر ولمَّاح. نقول للكابلي: لا تخبئ كأس الوطن الجميل على امتلاء “خشوم” المركز بالذئاب والتماسيح والقطط السمان فأنشدنا يا هذا.