تقدم ياسر عرمان، باستقالته من منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء. وكتب عرمان لدكتور حمدوك خطاب استقالة مسبب ومطول. وتنشر (السوداني) تفاصيله:
السيد رئيس الوزراء المحترم
دكتور عبدالله حمدوك
الموضوع: استقالة من منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء
إسمح لي بداية أن أعبر لك عن جزيل شكري للثقة التي أوليتني إياها حينما عرضت علي أن أكون مستشارك السياسي في ١٧ فبراير ٢٠٢١م. لقد قبلت تولي هذه المسئولية بعد نقاش مستفيض استمر حتى يوليو ٢٠٢١ “تاريخ تعييني رسميا في هذا الموقع”. وقد شمل هذا النقاش بيننا المهام والواجبات والوسائل، وقد خلصنا معاً بأن تلك المهام تتمثل في أربعة قضايا رئيسية: أولها المساهمة في استعادة علاقات متينة بين رئيس الوزراء والحركة الجماهيرية التي صنعت الثورة وبدونها لا تتم الصالحات، والمساهمة كذلك في بناء جبهة سياسية عريضة من قوى الثورة والتغيير لتوفير قاعدة اجتماعية وسياسية متينة للانتقال، ولقد كان يوم ٨ سبتمبر في قاعة الصداقة والذي شهد وحدة قوى الحرية والتغيير بداية جيدة في هذا الطريق، وأيضاً شملت المهام إعطاء أولوية لتنفيذ اتفاقية جوبا للسلام واستكمال عملية السلام، لا سيما أن التجربة التاريخية قد دلت على (أن لا سلام بدون ديموقراطية ولا ديموقراطية بدون سلام). مما يجدر ذكره أن اتفاقية جوبا هي الوثيقة الوحيدة التي شملت مصفوفة وخارطة طريق واضحة لإصلاح القطاع الأمني والعسكري بموافقة كل الأطراف، كقضية يحتاجها الوطن ولا غنى عنها لبناء الديموقراطية ودولة المواطنة بلا تمييز.، والاتفاقية الآن في غرفة الإنعاش. والقضية الأخيرة كانت تعزيز العلاقات بين بلادنا وقوى الثورة والمجتمعين الإقليمي والدولي.
لقد جاء تعييني بعد ما يقارب العامين من بداية الانتقال وفي أوضاع معقدة ووسط هجوم واسع من القوى المعادية لثورة ديسمبر. وقبلت التعيين مدركاً لكل هذه التعقيدات، ولم يأتي قبولي بحثاً عن المناصب أو المخصصات. ففي ظل نفس الحكومة التي قمت بتشكيلها في فبراير ٢٠٢١م، عرضت علي مناصب وزارية أرفع، واعتذرت عنها كما فعلت في الفترة من ٢٠٠٥م وحتى ٢٠١١م، مع الفارق بين الأمس واليوم. قبلت بالتعيين لأنني رأيت أن المرحلة الانتقالية تكاد أن تنزلق إلى هاوية معادية لأحلام شعبنا في الحرية والسلام والعدالة، وأن القوى المضادة للثورة على وشك العودة للمسرح السياسي.
وقبلت التعيين كذلك لأن معرفتي بك تمتد إلى ثلاثة عقود ماضية، تشاركنا فيها الرؤية العامة في بناء سودان جديد ولكن الرياح لم تمض كما اشتهى كلانا، ومنذ بداية تعييني لم تتطابق رؤانا في كثير من القضايا. وكنت منذ البداية صريحاً وواضحاً في التعبير عن آرائي داخل الاجتماعات وكذلك عبرت عنها كتابةً لبنات وأبناء شعبنا ووصل ذلك إلى قمته عند مشاركتي التي أعتز بها في المؤتمر الصحفي بوكالة السودان للأبناء يوم السبت ٢٣ أكتوبر ٢٠٢١م، والذي انعقد رغم العراقيل وتحدث فيه عدد من رموز الثورة على التوالي: محمد ناجي الأصم، صديق الصادق المهدي، مبارك بخيت وشخصي وقد عبرت عن آرائي بوضوح وانتهينا بعدها إلى السجن مراهنين على شعبنا.
في تجربتي من موقعي كمستشار سياسي الكثير والمفيد الذي يستحق التلخيص حول الكيفية التي كانت تدار بها الأمور، لا سيما وأن الحكومة التي تتولى رئاستها، حكومة فريدة، أتت عبر تضحيات جسام على مدى ثلاثة عقود ولا أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب للخوض في مثل هذه القضايا وتلخيص التجربة فالأزمات التي تحيط ببلادنا من كل حدب وصوب تتطلب التأني في الخوض في هذه القضايا في هذا التوقيت، مع التزامنا جانب الشعب دوماً.
الحقيقة أنني قبلت أن أكون مستشاراً بالإضافة إلى ما ذكرت مدفوعاً بالتأثير الهائل والعميق الذي أحدثته بي ثورة ديسمبر كإنسان ومناضل من أجل الحرية. فإنني أشعر بأنني قد ولدت من جديد بعد أن جفت العروق ولم تبتل ولم يذهب الظمأ إلا بهذه الثورة العظيمة. فقد صمنا وفطرنا على ثورة مجيدة وقد كان لي شرف المشاركة في العمل من أجلها بقدر ما استطعت، والحلم بها على مدى ثلاثة عقود، كنت خلالها برفقة نساء ورجال كبار وشهداء التقيت بهم في سنوات تصدي شعبنا لفاشية الإنقاذ.
إذا ما أتيح لي أن أؤرخ لميلادي السياسي لما ترددت في القول أن ميلادي السياسي الأول كان في ١٣ يونيو ١٩٧٨، تاريخ انضمامي للحزب الشيوعي السوداني، وكنت حينها ابن ١٦ عاما، وميلادي السياسي الثاني هو في يوليو ١٩٨٦م، حينما انضممت إلى مكتب الحركة الشعبية السري في الخرطوم ووصلت في يناير ١٩٨٧م إلى معسكر (إتنغ) للاجئين في جنوب غرب إثيوبيا على الحدود السودانية آنذاك، والذي كان يضم حينها مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين الجنوبيين الفقراء والمهمشين والغاضبين بلا حدود. وكان ميلادي السياسي الثالث مع الديسمبريين في ثورتهم المُشيَّدة بدماء الشهداء وأظن أنني من المحظوظين حينما أدركتني هذه الثورة قبل فوات الأوان، وقد غابت عنها شخصيات عظيمة كم كانت تستحق أن تكحل ناظريها بالثورة والجيل الجديد من الديسمبريين، ولا ازال أرى صور الغائبين الحاضرين الذين استقبلوني في ساحة الاعتصام المكحلين بمراويد الصلابة وإيمان الصحابة.
بعد خروجي من السجن موخرا في ٢٢ نوفمبر ٢٠٢١م، كنت أتوقع أن تدعوني للقاء أخير حتى أتقدم باستقالتي لك على نحو مباشر مثلما كان الحال عند تعيينك لي، وأن تتاح لي الفرصة لأشرح لك بكامل الاحترام تباين المواقف بيننا، قبل وبعد انقلاب ٢٥ أكتوبر خصوصاً بعد اتفاق ٢١ نوفمبر. وأن نفترق مثلما التقينا، فقد نمت الصلات بيننا طوال ثلاث عقود، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية في تجارب الإنسانية الأمثل، فقد حاز البشر على جائزة نوبل ولم يحوزوا أبدا على الحقيقة المطلقة. ولما لم يتم اللقاء المباشر ولم أتلقى مكتوباً بإفادتي، رأيت أن من الواجب أن أتقدم باستقالتي.
في خلال مدة عملي معك، لم يتح لك أن تسالني عن القضايا الشخصية المتصلة بأداء مهامي، ولم أناقشك مطلقاً في ذلك. وأود أن أعلمك في سجل إثبات هذه المهمة، أنني طوال فترة أدائي لمهامي كمستشار سياسي كنت أقوم باستخدام سيارتي الخاصة ولم أستخدم أي سيارة حكومية فيما عدا أربعة أيام وأنني اعتذرت للصديق العزيز حاتم قطان والذي ناقش معي بحكم مهامي الانتقال لمنزل حكومي بحي المطار، ولا زلت أقطن في منزلي الشخصي وكذلك اعتذرت عن استلام السيارات الحكومية التي يتيحها لي موقعي، مفضلاً السكن على حسابي الخاص واستخدام سيارتي الخاصة كما أنني لم أتقاضى أي مرتب شهري أو أي أجر طوال فترة أدائي لمهامي. وسوف أتصل بمكتب رئيس الوزراء للتبرع بأي مخصصات تخصني لمستشفى (طابت) الريفي بولاية الجزيرة.
في الختام..
أعتذر عن أي مضايقة شخصية سببتها لك في أثناء أداء واجباتي واعتز بالآراء التي عبَّرت عنها بكل صراحة وصدق مع أمنياتي الطيبة لك ولأسرتك وأتمنى أن لا ينقطع حبل الود بيننا مهما تباينت المواقف حول الشأن العام.
ياسر عرمان
المستشار السياسي السابق لرئيس الوزراء