يا البرهان.. من المقصر؟

منذ المحاولة الانقلابية المزعومة في رأي بعضنا، والحقيقية في رأي بعضنا الآخر، وأقصد بها محاولة اللواء البكراوي، وقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان يقود حملة مسعورة ضد القوى السياسيّة، ويحملها دون شريك أوزار ما بعد الثورة المجيدة.
ولا يكتفي البرهان باتهام الأحزاب بالإخفاق، ولكنه يمارس تحريضًا لا ينقطع ضدها، سواء أكان ذلك تحريض الجيش، متهمًا أن تلك الأحزاب تحاول النيل منه، وتوجه إليه أصابع الاتهام، بل إنها تحاول تحقيره بكل السبل، حسب زعمه، أو تحريض الشارع بادعاء أن وزراء الانتقالية فشلوا في تأمين معاشه، وتسببوا فيما هو عليه من ضائقة.

كما يتغافل البرهان عما يعتمل في الشارع من حراك محموم من القوى الحية ضد من اغتالوا الشباب بدم بارد منذ مجزرة فض الاعتصام حتى مليونيات ما بعد انقلابه في 25 أكتوبر الماضي، ويذهب بعيدًا باتهام مخابرات دول أجنبيّة بأنها تنتهك هذا الشارع، بمعنى أنها تقوم بتحريض الشباب، كما لو أنهم مدفوعون بأطماع شخصيّة، ومتحركون بأموال أجنبيّة، وهذا اتهام صريح بالعمالة.
وتشير تقارير إعلاميّة ومتابعات بعض الباحثين والمهتمين بالشأن السوداني إلى أن مثل ما قام به البرهان من انقلاب لا يمكن أن يكون إلا بتنسيق عالٍ مع بعض اللاعبين الرئيسين في الإقليم، وبالاستعانة بخبرات دوليّة، لها معرفتها العميقة بأساليب ترويض المعارضين، وإطفاء جذوة الثورات.

وهنا يأتي السؤال: من الذي يستقوى بالخارج، الشارع الذي يتحرك تلقائيًا دفاعًا عن ثورته التي مهرها بالدماء الطاهرة، أم الذين يريدون أن ينقلبوا على أعقابهم، ويرغبون بقوة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ليحل طاغية محل آخر، هذا إذا لم تُفتح أبواب الزنازين لتستقبل الثوار، وليودعها الطغاة الذين جثموا على صدورنا 30 عامًا.

هذه الصورة ليست نسج خيال، ولكن الأيام التالية للانقلاب أكدت حقيقة ما يدور في أذهان الانقلابيين، الذين زجوا بالشرفاء في الزنازين، وأخرجوا آكلي مال الشعب، بل عينوا منهم عددًا كبيرًا في مختلف المناصب، وكان لجهاز الأمن النصيب الأوفر، إذا رجع لكتابه القديم، وسلوكه العتيق، حتى إنه اعتقل أناسًا بلغوا من العمر عتية، ظنًا منه أنهم على عنفوانهم، حين كانوا يقارعون السلطة، ويمارسون معها الكر والفر.

وبقوة عين يُحسد عليها، اتهم البرهان القوى السياسيّة أنها وراء العنف القبلي، وانتشار الجهوية والعصبية، في حين أنه ظلّ يستقوى بالقبلية ويستدعي الطرق الصوفيّة عند كل منعطف منذ فضّ الاعتصام حتى اعتصام الموز، بل طالب أن يكون الوزراء ممثلين للأقاليم، سيرًا على سنته في تعيين أعضاء لمجلس السيادة يدعي أنهم يمثلون الأقاليم، معلقًا تعيين ممثل لإقليم الشرق، إلى حين.

هل هذا الذي أتاه البرهان في قراراته وتعييناته له أي أساس يمكن أن يعتد به في بلد له تاريخ عريق في الممارسة السياسيّة؟
وهل نظر البرهان إلى البلد وجال بعينيه على خريطته ليعرف حجم الدمار الذي يتسبب فيه لعدم قيامه بمسؤولياته في حفظ الأمن، وبسط الطمأنينة في أرجائه، بعد أن أصبح المواطنون يُنهبون في وضح النهار، وتُزهق أرواحهم، بلا أي ذنب؟
لن نتحدث عن هيكلة الأجهزة الأمنية، ولا الترتيبات، ولا ما تفقده الخزينة العامة من أموال بسبب الشركات التابعة للمؤسسة الأمنية، ولكن نتحدث عن كف أذى المتفلتين، الذين يبثون الرعب في شوارع المدن، والضرب على أيدي من يوجهون بنادقهم إلى رؤوس الأبرياء ويهجرونهم بحثًا عن ثروات في أراضيهم، أو انتصارًا لبقرة نفقت.

وبعد هذا يأتي السؤال عن: من المقصر؟ ومن الذي يبث خطاب الكراهية في المجتمع؟
أسوأ ما يمكن أن يقوم به إنسان من فعل أن يعمل عكس ما يستوجبه منصبه، وأن يحاول إقناع الآخرين أن ما يفعله يصبُّ في مصلحتهم.. يا لها من أبويّة قاتلة.