تنطلق يوميا نحو 60 حافلة سياحية في المتوسط من الخرطوم نحو القاهرة. وهذا الرقم تصاعد بأكثر من الضعف في أقل من ثلاث سنوات، هذا بالاضافة الى خمس رحلات طيران يومية بين العاصمتين. السفر بين البلدين ليس جديدا خاصة لاغراض السياحة والعلاج والتعليم، لكن الجديد تنامي أعداد المغادرين بصورة كبيرة بحثا عن حياة عادية تتجنب المنغصات التي أصبحت واقعا يوميا، وبروز ظاهرة بيع العقار في السودان واستبداله بأخر للأستقرار في مصر. كما أن التقديم للدراسة في مصر أصبح خيارا أوليا للكثير من الاسر السودانية سواء الموجودة في السودان أو في الدول الخليجية. ورغم تضارب الارقام وعدم أعتمادها بصورة رسمية الا انه يعتقد ان السودانيين المقيمين يتراوح عددهم في حدود المليون ونصف المليون نسمة، كما ان عدد الطلاب المسجلين في مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية المصرية لا يقل عن 40 ألفا.
هذا واحد من مظاهر عدم الاستقرار التي تدفع بالناس الى شراء العقار والذهاب الى بلد أجنبي لتعليم ابناءهم، على ان متاعب الدولة السودانية لا تقف عند هذا الحد وأنما تنسحب الى قضايا أكثر حيوية تغيب عنها الدولة بسياسات توضع لمعالجة الخلل وأجهزة دولة قادرة على تنفيذ هذه السياسات حتى تؤتي أكلها. وقبل ذلك تغيب أجهزة للرصد والمتابعة سواء في المؤسسات الاكاديمية والبحثية وحتى الاعلامية عدا ما تقوم به الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات وكل لاهدافه الخاصة والضيقة.
ولعل غياب أي سياسة سكانية يأتي على رأس هذه الفجوات التي أصبحت مهددا أمنيا. فالسودان يعتبر بلدا قليل السكان قياسا بمساحته الشاسعة وموارده الطبيعية المتاحة. ان أحد أفضل الامثلة على المخاطر الامنية التي تمثلها قلة السكان هذه النزاع المستمر بين السودان وأثيوبيا في منطقة الفشقة حيث الجموع الاثيوبية ترى أمامها مساحات زراعية خصبة وليس للمزارعين السودانيين القدرة على استثمارها لقلة السكان وكان أن وفروا العمالة المطلوبة وفيما بعد تطورت صيغة الشراكة هذه الى ملكية بوضع اليد ساهمت فيها بعض التعقيدات والحسابات السياسية الخاصة بالانقاذ. ومن أوجه غياب أي سياسة سكانية هذا الوجود الاجنبي المتضخم والغير مقنن، بل حتى غير مسجل أو مراقب، اذ تشير التقديرات الى وجود ما بين سبعة ملايين الى ثمانية ملايين نسمة من الاجانب يقيمون بصورة ما في السودان.
وهذا ما يشير الى مشكلة أخرى تتعلق بالغياب شبه الكامل لآي أرقام يعتد بها. فلكي تدير بلدا ما هناك حاجة ماسة للأرقام. وربما تمثل حالة ولاية الخرطوم النموذج الابرز في هذا الجانب. اذ ليس معروفا بالضبط عدد سكان الولاية بسبب النزوح لآسباب تتراوح بين العنف وحالة الجفاف وضعف فرص العمل والخدمات والاستقرار في الولايات لدرجة أن بعض التقديرات تشير الى ان نصف سكان العاصمة من النازحين. وهناك أكثر من 20 لهجة ولغة متداولة في الولاية وما يتبع ذلك من عدم القدرة على توفير للسلع والخدمات لهم لأنه ببساطة لا يمكن التخطيط لأمر مجهول. وبسبب هذا التكدس فانه يعتقد أن سكان محلية أم بدة مثلا يزيدون على مجمل سكان ولايات الشمالية ونهر النيل والبحر الاحمر مجتمعة.
ثم هناك جانب عمليات التغير المناخي وتتخذ شكل عمليات التصحر التي تفاقم من عمليات الصراع على الموارد. وتجدر هنا الاشارة الى المقال الذي كتبه بان كي مون سكرتير عام الامم المتحدة السابق ووصف فيه مشكلة دارفور انها أول نزاع يتم في العالم بسبب عوامل طبيعية تتعلق بالتغير المناخي. وتشير بعض الاحصاءات القديمة الى ان عمليات التصحر في السودان تسير بسرعة 10 كيلومترات سنويا.
على ان الاخطر في ذلك كله من مظاهر ضعف الدولة هذا التعايش مع الازمات واضمحلال الهمة وعدم الرغبة في التصدي لها ما بين التعايش مع تلال القمامة في المدن وانتهاءا بالتعايش مع الارتزاق من قبل الساسة سواء مدنيين أو حملة سلاح كما يشير تقرير لخبراء الامم المتحدة عن دارفور مطلع العام الماضي وبعد ذلك تسنمت مجموعة منهم أعلى المناصب الدستورية ودون أن يتوقف أحد أمام ذلك.
أما أكبر مهدد للدولة السودانية فيتعلق بتعدد مراكز القرار بين الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة الموقعة على أتفاق سلام يفترض أن يؤدي الى جيش موحد.
لكن الامر أعقد من ذلك.
تاريخيا فأن أي أتفاق سلام تم أبرامه مع متمردين انما كان مع نظام عسكري. يصدق هذا على اتفاقية أديس أبابا 1972 بين النميري والانيانيا وبين الانقاذ والحركة الشعبية 2005. ولهذا فرغم أن السلطة ألت الى الحكومة التنفيذية برئاسة حمدوك وأن ملف السلام كان من أولى واجباتها، الا ان المكون العسكري أختطف هذا الملف لاسباب تتعلق بضعف المكون المدني من ناحية ولرغبة الحركات المتمردة في التعاون مع العسكريين لسببين انهم الاقدر على التعامل مع أهم ملف في أي اتفاق سلام وهو ملف الترتيبات الامنية ولو من واقع الخبرة العملية. أما السبب الثاني فهو رابط الثقافة والخلفية العسكرية وعدم الشفافية بين الاثنين مما يجعلهم أقرب الى التفاهم من تعاملهم مع المدنيين. على أن أتفاق جوبا سبقه تفاهم أشار اليه تقرير خبراء الامم المتحدة المشار اليه ويتلخص في انتهاز قوى الهامش هذه الفرصة وفراغ مركز السلطة في الخرطوم من الشخصيات والقوى السياسية الفاعلة مما يعطي قوى الهامش الفرصة لحكم السودان. وهكذا انتهى الامر بحميدتي الدارفوري يقود المفاوضات ممثلا للمركز مع الحركات الدارفورية أساسا. وبدل أن يستخدم المركز الهامش في حروبه، يتجه الهامش الى السيطرة على الدولة ويستغل المركز لصالحه.
ومع ان قطار اتفاق سلام جوبا لا يزال متوقفا في انتظار التنفيذ خاصة فيما يتعلق ببند الترتيبات الامنية، الذي يحتاج الى التمويل، الا ان المسألة أكثر تعقيدا. فهناك أولا تعدد مراكز القرار عند أضافة الدعم السريع وحركات دارفور. وهذه القيادات المستندة الى جيوشها أصبح لها صوت أعلى في الميزان السياسي، ثم ان كلا منها له أمتداداته الاقليمية ومن دول يهمها الولوغ في الشأن السوداني بصورة أو أخرى خاصة وهذه المجموعات أرسلت قواتها الى القتال في كل من اليمن وليبيا وجنوب السودان. ومع الضعف المتواتر لهيكل الدولة السودانية فأن هذا واقعا لابد من وضعه في الحساب. تجارب دمج المجموعات المتمردة لم تحقق نجاحا يذكر في فترة أتفاق أديس أبابا رغم التماسك النسبي لمؤسسات الدولة أنذاك. وشكل عدم الرضى من عمليات اعادة الدمج والتسريح خميرة تطورت فيما بعد الى تمرد متكامل مستفيدا من متغيرات المشهد السياسي وقتها. أما فيما يتعلق بالترتيبات الامنية في أتفاق نيفاشا فأنه لم يبارح المحطة للأنطلاق أبتداءا كما ان العمليات التي تمت بالنسبة لبعض الحركات الدارفورية المنشقة لم تحدث تأثيرا يذكر على المشهد السياسي العام. وهذه خلفية لابد من وضعها في الاعتبار عند الحديث عن مدنية الدولة. فالمدنية لا تعني فقط مجرد غياب العسكريين عن المشهد السياسي وأنما توحيد السلاح وتقليص النفوذ الخارجي الى الحد الادنى الذي تستطيع الدولة السيطرة عليه.
هذه ملامح لبعض القضايا التي تشير الى ضعف الدولة السودانية وغياب الاجهزة أو عدم قدرتها على مواجهة هذه التحديات. ويمكن أعتبار فترة نهاية سبعينيات القرن الماضي وعند أول تخفيض للجنيه السوداني المرحلة التي بدأ فيها تدهور السودان اقتصاديا وأنعكاسات ذلك سياسيا وأضمحلال قدرة الدولة في التعامل مع هذا الفشل المتواتر عبر مختلف الانظمة. ولعل في بلوغ الازمة هذه المرحلة وتصاعدها بمتواليات هندسية تتجاوز قدرات العسكريين والمدنيين وحملة السلاح ما ينبغي أن يدفع الى التفكير الجدي والاستفادة من مناخ الحريات الحالي وتعزيزه للانخراط في حوار جاد عنوانه الابرز:
كيفية الحفاظ على الدولة السودانية أولا.
asidahmed@hotmail.com