نعم الثورات تتشابه مع التميز.. تتشابه كثير من الثورات في البيئة التي تفرزها لكون معظم بيئة انتاج الثورات هي الظلم والفساد والاضطهاد، لكنها تختلف حسب اختلاف ثقافة مجتمعها. ولولا أن الثورة الفرنسية قد وقعت في نهاية القرت الثامن عشر 1789م ولأكثر من قرنين لقلت هي التي تشبه ثورة ديسمبر المجيدة التي فجرها شعبنا السوداني الابي في 2018م.
قامت الثورة الفرنسية على ثلاث ركائز استهدفها الثوار وهي الغاء النظام الملكي الامبراطوري القائم على البزخ والابهة واضهاد ما دونه ولتحقيق ذلك أرهق شعبه بالصرف على الملكية بانتزاع الضرائب الباهظة من المزارعين والعمال للوفاء بمتطلبات الحياة الملكية المرفهة وطبقة النبلاء والكنيسة. إنه ذات الثلاثي الذي تحكم في أدارة موارد البلاد وتفرد بالسلطات. وكان مصدر اضطهاد الريف وشقاء الضعفاء والمعاناة في سبل كسب العيش حتى ندر وعز على الناس الحصول على رغيف الخبز، وعندما قيل “لماري انطوانيت” زوجة لويس السادس عشر وهي النمساوية المدللة أن الشعب يعاني ويثورلانه لا يجد الخبز. كان جوابها لماذا لايأكلون كعكاً. صحيح أن المقولة قديمة متجددة قالها حكام متسلطون قديما وحديثاً كانوا بعيدين عن نبض شعوبهم. لهذا كان حقد جمهورالثورة الفرنسية عظيما على حكامهم، فبدأت الثورة عنيفة ملطخة بالدماء وعلقت الرقاب في المشانق، فاقتيد لويس السادس عشر وزوجته الى المقصلة. وكانت اول وجهات الثوار سجن الباستيل رمز الاضطاد والقهر، فدمروه في اليوم الرابع عشر من يوليو 1789م.وأصبح ذلك عيد الحرية عند الفرنسيون. بل شيدو “برج ايفل” كأعلى برج في العالم في ذلك التاريخ في الذكرى المئوية احتفاء بالثورة والحرية التي انتزعوها من داخل القصور واقطاعيات النبلاء والكنيسة، فاستلهم ذلك آخرون فرفرفت اعلام الحرية في دول الجوار القريب والبعيد وكانت الثورة فخرأ لجيل فرنسا الناشى والعالم فيما بعد.
إذا سلمنا بتشابه بيئة انتاج الثورات مع بعض التميز والاختلاف في التفاصيل. فما هي تجربة ثوار ديسمبر في السودان التي اسقطت حكما استبداديا مزق البلاد وباع منشىآتها الحيوية من بحرية وطيران وسكة حديد ومشروع الجزيرة والقاىمة تطول لتستقر الحصيلة في جيوب افراد أو تنظيم. لكن كان الاسوء فصل الجنوب واشعال الحروب واثارة النعرات القبلية والجهوية في طول البلاد وعرضها بل حتى الدين لم يسلم من العبث فكانت تلك بيىة ثورة ديسمبر المجيدة.
لقد أسهب كثير مم المؤرخين والمحللين السياسيين واصفين الثورة الفرنسية بالعنف والدموية المفرطة. بينما آخرون برروا ذلك بأنه كان من أجل تحقيق الافضل وأن ما حدث كان لابد منه. فهل كانت ثورة ديسمبر المجيدة كذلك؟ وهنا في السودان يمكن القول إنه قد حدث النقيض. فثورة السودان جاءت وهي غير مسلحة بالشرعية الثورية أهم وأخطر ادوات الثورية. بل كانت سلمية ناعمة بلا اسنان أو اضراس .. جاءت ترفع شعار حرية .. سلام .. عدالة.. متكئة على لجنة أمنية عسكرية ظنوا أنها قد انحازت الى الثورة لتحميها، رغم أن الكثيرين كانوا على يقين انها ليست من اصدقاء الثورة بل مجموعة ضرار جاءت بخليط من المشاعر بعضها صادق لكن الغالب أنهم امتداد للنظام البائد تماهوا مع بيئة الثورة والثوار بذكاء تكتيكي الى حين وهذا ما أكدته لواحق الايام والاحداث.
لقد حمل بعض المؤرخين على الثورة الفرنسية ووصفوها بالعنف والدموية التي تفوق قدرة الذاكرة المعاصرة لما فعلته بحكامها ونظامها الملكي. لكن في ثورة ديسمبرالناعمة قد فُعل بها وثوارها وكانت أول الفصول ومشاهد المسرح، فض اعتصام القيادة العامة وما صاحبه من عنف تجاه شباب عزل كانوا لا يحملون في اياديهم سوى اعلام الوطن وفي قلوبهم أمل تحرير وبناء وطن جديد تضيؤه شموع الحرية ويعمر بالعدل والمساواة في المواطنة، فروت دمائهم الطاهرة التراب ولونت ماء النيل في مأساة هي الافظع في تاريخ السودان والتي لا تتقبلها ثقافتنا المتسامحة.
لقد قال أحد المؤرخين الفرنسيون وهو يصف “روبسبير” أحد قادة الثورة الفرنسية حيث قال أنه سعى للسيطرة على الغوغاء ببث روح الرعب والخوف وفي ذلك صفق له الثوار ولقسوته وصف بأنه كان في لون أخضرار ماء البحر كناية عن قسوة ملامحه، حيث ظل يسوق ضحاياه وهو في حالة إنتشاء الى مصائرهم وهم يصعدون المقاصل حتى انقلب عليه الثوارفحاكمته الثورة واودع احد اقفاص عربات القمامة والنفايات امعاناً في الاذلال ثم اعتلى احدى المقاصل ليلحق بضحاياه. تلك هي جماهير الثورات التي لا تقبل النصح وهنا اشير الى مقال سبق لي كتابته عندما احتدم الصراع بين شباب الثورة والعسكر في بداية الثورة بعنوان “من ينصح الثوار ويقنع الجنرال ” نشرته صحيفة التحرير الالكترونية بتاريخ…. والذي استنتجت فيه أن شباب الثوار وهم الشارع لا يمكن نصحهم أو التحكم فيهم، كما لاحظنا قبل يومين ماذا فُعل ببعض قادة ثورة ديسمبر. إنه مشهد محزن أن يحيط ثوار ديسمبر في مليونية 25 ديسمبر بخالد سلك وتوجه له ولقيادات قحط هتافات معادية، مما يعني أن الشارع متغير المزاج وربما ينتظرذلك المصير أخرون من قادة الثورة وإن لم تبتدع بعد عقوبة المقصلة ليصعدوها.
كتب المؤرخ “توماس كارلايل ” عن الثورة الفرنسية والذي كان يرى أن النظام الملكي البائد كان عفناً فاسداً استحق ذلك المصير الذي وصل اليه على يد الثوار وكان في تقديره أن ثلاثة فقط من قادة الثورة كانوا قادرين على توجيه قوى الثورة العمياء. أحدهم كان “ميرابوا” الذي مات بعد عامين من قيام الثورة ولم ير أن حلمه قد تحقق. والثاني هو” دانتون” الذي ابتلعه غوغاء الثورة في انفعالاتها الطائشة. لقد كان الرجل ورغم بعض عيوبه وشوائبه فقد كان ملتهباً بالحماس ووصف بأنه أتى من قلب نيران الطبيعة ذاتها. أما الشخصية الثالثه فهو “نابليون ” الذي جر الجيش الى السياسة منهياً آخر هبًات ثوار باريس وروضهم بفيض من وضربات المدافع والشظايا الحارقة. لقد كتب المؤرخ ” كارلايل” بانطباعاً قوياً صورايام الثورة بانها كانت فوضى مصبوغة بالدم والعنف مشفقاً على كثير من الابرياء الذين وقعوا ضحايا بين براثن قوى ثورة عمياء ماكان بمقدور أحد السيطرة عليها حتى “روبسبير” أحد قادتها اعُدم في المقصلة ولم تشفع له ثوريته وسبقه الثوري وأصبح وكأن الثورة قد بدأت تأكل بنيها بل قادتها ايضاً.
لقد انتجت الثورة الفرنسية ادباً ومسرحاً وتاريخاً ودساتيراً ظلت مرجعية حتى الآن، بينما كان جيرانها الانجليز ينظرون اليها بحقد واحتقار ولا يرون الا دمويتها وأنها جاءت ناقصة عما جاءت به ثورة انجلترا من أجل الحريات في عام 1688م التي سبقتها بقرن، بل يرون أن ثورة فرنسا كانت أقل من مخرجات ثورة الامريكيون في عام 1776م. وما ذاك الا ما رآه جيراننا شمال الوادي في ثورة ديسمبر المجيدة. لكن حاشا وكلا فإن لثورة ديسمبر فضائل اشاد بها العالم كما الفرنسية وذلك لما تميزت به من سلمية واعادة بناء الثقة في أنفسنا وشباب وشابات كنا نظنهم بلا رائحة ولاطعم. اليس في في قطار عطبرة شبة بالمارش الذي جاء من بعيد داعماً لثورة باريس وهم يتغنى بنشيد “المارسليزيه”. اليس في حراك تجمع المهنيين ولجان المقاومة والحرية والتغيير والديسمبريون وجه شبه “بالسانكيلوت ويعاقبة اليساروالليبراليين المتشددين” في باريس. مع الفارق في سلمية ثورتنا العظيمة ورقي شبابنا في ساحات الاعتصام وهم يستدعون نخوة الثوار في الدعم المادي السخي بعبارات محفزة تقول ” عندك خت ولو ما عندك شيل” فيتكامل العطاء مع الاخذ وتلك معادلة حصرية ابتدعها فقط ثوار ديسمبر المجيدة. بينما ذهب الغلو بثوار باريس ولشده حقدهم على الملكية وبذخها التي ظلوا يلعنونها وربما زج باي شخص ارتدى ملابس ثمينة في السجن لأنه تمثل مظاهر الملكية والنبالة البغيضة.
لقد كانت تكلفة الثورة الفرنسية وحروبها اللاحقة التي قادها نابليون ضد انظمة الحكم الاوربية القديمة باهظة جداً وخاصة الدماء التي سالت في فتوحاته المنتصرة التي وصلت حتى مصر. اذ ورد انها بلغت نحو خمسة مليون قتيل كان نصيب الجيش الفرنسي وحده نحو مليون واربعمائة ألف. وفي ذلك قد قاربت ضحايا الحرب العالمية الاولي وهكذا الحكام احيانا يصرفون الانظار الداخلية بافتعال حروب خارجية، فالعسكرفي السودان يفعلون ذلك اليوم في حدودنا مع اثيوبيا وجبل مون بدارفور.
ومهما اتسعت دائرة النقد للثورة الفرنسية في كونها كانت مرعبة وان جماهيرها كانت متعطشة للدماء فقد قال عنها ” بيير بيزوخوف” في روايته الرائعة ” الحرب والسلام “. لقد كانت الثورة شيئاً رائعاً ” سرقة وقتلاً واعدام ملك ” فرد عليه طرف آخر ساخراً لقد كان الاهم ” اعلان حقوق الانسان والتحرر من الاضطهاد وحقوق المواطن”.
لقد ارست الثورة الفرنسية في بدايتها بياناً تأسيسياً ليكون دليل عملها وهو” أعلان حقوق الانسان والمواطن ” الذي كان اشمل ومتقدماً عن مبادئ الحقوق الانجليزي الذي صدر 1689 وكذلك الامريكي في عام 1776م بخطوات بعيدة، والتي لم ترتق الى حد الكمال عما جاءت به الثورة الفرنسية. صحيح أن الفرنسيون قد عدلوا في الاعلان ثلاث مرات مؤكدين أن الجهل واللامبالاة بحقوق الانسان هما سبب شقاء كل امة وفساد الحكومات. ورغم أن نابليون قد ألغى الاعلان بعد تسلطة على الثورة وهي في عامها العاشر بحجة اعادة النظام وحسم الفوضى في البلاد. لكن ظلت الحكومات اللاحقة تجد أنه لا مناصة من الاخذ به حتى نابليون قد اعاد العمل به لاحقاً.
الامم المتحدة في نشأتها عام 1948 م كانت المادة التمهيدية واربعة عشر بنداً من بنودها الثلاثون نصاً ورحاً من اعلان الثورة الفرنسية لعام 1793م. أما المؤتمر الاوربي لحقوق الإنسان لسنة 1953 فقد نقل اعلان الثورة الفرنسية حرفياً وبكامله. عدا البريطانيون فقد أخذوا ينظرون لاعلان الثورة الفرنسية في حسد وغيرة ولايعترفون بالاعلان ولا الثورة الفرنسية التي اعدمت ملكاً واسالت الدماء ووطنت العنف.
إن شباب وشعب السودان دائما مبدعين، لفتوا انظار العالم بثورتهم السلمية فوقفوا معهم داعمين لثورتهم كنموذج. للاسف أننا لم نتجاوز ونبارح شارع الثورة لنقنن ونضع الاساس لثوابت المباني والمعاني في السياسة والحكم والاتفاق على خارطة طريق نهتدي بها في استنهاض الوطن. بل أخذنا نمكًن لتناقضات لا يمكن لنا الا أن نصنفها بنوع من العبث والفوضى، جاءت بالعسكر مهرولين وهم يدعون أن الوطن في خطر ويودون تصحيح مسار الثورة. وقد نسأل بعضنا ماذا يريد الثواراليوم؟ وهل نستطيع أن نوجد تحولاً استراتيجياً الى الدولة المدنية والديمقراطية بدون حوار وبدون احزاب وقوى سياسية مهما كان عليها من ملاحظات؟ والتساؤل المحير لمن هذا الشارع الذي يضطهد قادة القوى السياسية والاحزاب الذين يشاركونه في معارضة العسكرويطالبون بالتحول الديمقراطي، ويهتف في وجوههم كما حدث لخالد سلك وأخرين الذين خرجوا لتوهم من السجون. نعم لا وصاية على الشارع، لكن لابد من مناصحته بضرورة الحوار على ان تبقي شعارته وفي اعلا سقوفها لانها قرون الثورة التي تدافع بها وأداة ضغط مكملة لمبدأ الحوار واطروحات التأسيس التي لا ينبغي أن تدمغ مسبقاً بخيانة الثورة ودماء الشهداء. فالشارع وحده ورغم تضحياته التي لا طعن فيها لا يمكن أن يبني الوطن بل هناك مربع أخر ينبغي الانتقال اليه مع إطلاق حريات التفكير وخطط التأسيس والبناء، وأن قديمنا من الاحزاب وإرثنا السياسي والشعبي، لابد أن يكون حاضراً في نفير بناء السودان الجديد ولكن بضوابط صارمة وبخلاف ذلك فسيكون الشارع انقلاب على الديمقراطية لا يختلف عما ارتكبه البرهان وجماعته.وليبقى الوطن للجميع…