“شكرًا حمدوك” عبارة ظلّ الشارع يرددها امتنانًا وتقديرًا لرئيس مجلس الوزراء المستقيل الدكتور عبدالله حمدوك، وعلى الرغم من اختلاف الشارع في تقييم خطوته في توقيع الاتفاق السياسي مع قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021م، إلا أن الأغلبيّة ظلت على تقديرها وامتنانها للرجل.
حمدوك نموذج فريد في التعامل الراقي، والصبر والجلد، والقدرة على التسامح، ولا أدلَّ على ذلك من توقيعه ذلك الاتفاق السياسي مع من تربصوا به، وعملوا على إفشاله بتدابير مفضوحة، مثل شد الأطراف، وإشعال الفتن القبليّة فيها، والتحريض على إغلاق الطرق القوميّة خنقًا للاقتصاد، خشية أن تظهر جهود الرجل في إعادة السودان إلى خريطة العالم، وإدماجه في المجتمع الدولي.
تقديري أن حمدوك كان يظن حقيقة أن خطوته هذه ستحقن الدماء، وتعالج انسداد الأفق السياسي، وكان هذا خطأً في قراءة الشارع، وقد غلبت عاطفته كياسته السياسية؛ لأن الشارع بعد أن أعطى المكون العسكري عددًا من الفرص التي أضاعها فقد الثقة فيه تمامًا، ولم يعدّ لديه مزيد من الصبر والتحمل، إذ أصبحت أحلامه في مهب الريح، إذا لم يحمها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وإصرار.
استقالة حمدوك تعيدنا إلى مشهد ما قبل سقوط البشير (لا نقول نظام الإنقاذ، لأنه لا يزال قائمًا)، إذ كان همّ البشير تشكيل حكومة ظنًا منه أن الأزمة اقتصاديَّة، وقلنا له يومها: “القضيَّة ليست نقودًا ولا وقودًا”، راجع التحرير الإلكترونيَّة:
https://www.alttahrer.com/archives/24858
واليوم يركز البرهان تفكيره في تكوين حكومة كفاءات مستقلّة حسب زعمه، وهو بالتأكيد قد ارتاح من ضغط شخصية حمدوك الطاغية صاحب الشعبية على المستوى الداخلي، وصاحب القبول والعلاقات على المستوى الدولي.
يصم البرهان أذنيه عن سماع صوت الشارع كما كان يفعل البشير، ويريد أن يسرع في تكوين حكومة بالشكل الذي يرضيه، وهذا ما أدركته دول الترويكا وغيرها من الدول والمنظمات المعنية بالشأن السوداني وحذرت منه، ليقوم تحت الضغط الدولي بتشكيل لجنة من أجل التفاوض مع القوى السياسيَّة.
أما جرائم القتل التي تمارس، ومحاولات إذلال الشعب بانتهاك الحرمات، والسطو على المواطنين في وضح النهار، وغير ذلك من الممارسات التي لا مهرب لصاحبها من الجنائية الدولية، فقد أصبحت مفضوحة، على الرغم من دفاع الرجرجة من أمثال التوم هجو والمحللين “الاصطراطجيين”، الذي يحلون دماء الشباب، بل ذهب هجو أخيرًا إلى أن “سوار الذهب والبرهان” هما البريئان، بينما كل القادة من عسكريين ومدنيين في قفص الاتهام من الاستقلال إلى اليوم.
وكذب هؤلاء إلى جانب كذب بيانات الشرطة وأحاديث الناطق الرسمي استفز كاتبًا كبيرًا مثل الأستاذ سمير عطا الله، فكتب معلقًا على اقتحام مكاتب “العربية” و”الحدث” ساخرًا وغاضبًا: “أعلن ناطق عسكري سوداني أن حادث اقتحام مكاتب «العربية» و«الحدث» كان فردياً. ولا نعرف من أي جيل هو السيد الناطق، لكن الأرجح أنه من جيل الطباعة ورائدها غوتنبرغ، أو على أبعد تقدير من جيل الإذاعة ورائدها يونس بحري صاحب الشعار الشهير «هنا برلين – حي العرب».
أما العصر التلفزيوني فهو، على نحو خاص، معضلة الناطقين العسكريين العرب؛ لأن فيما كان الناطق ينفي، كانت كاميرات مكاتب «العربية» تصور. والصور لا تظهر «فرداً» يحمل عصا طويلة ويكسر ويحطم ويوقع الموظفين على الأرض، بل مجموعة «أفراد» في ثياب عسكرية واضحة، يضربون يميناً ويساراً ويصرخون ويهددون ويعتدون ويقلبون مكاتب صحافية غير مسلحة بعنف عسكري مدروس ومقصود وفعلاً لا يصدق. إنها وحشية فردية لا يمكن أن تقوم بها فرقة عسكرية، لا في حق الإعلام بصورة عامة ولا في حق الجيش ولا في حق السودان، وأخيراً، ليس في حق اللغة العربية، التي ليس فيها لتعريف الفرد سوى أنه إنسان واحد وليس مفرزة ولا فصيلاً ولا فرقة من المتوحشين الذين ينفذون أوامر واضحة”.
وهكذا يسجل شبابنا أروع المواقف ويبرزون صورة زاهية للإنسان السوداني المتمسك بحقه في حياة كريمة، يقوم فيها كل سوداني بدوره الذي يجيده، ومن ثم، لا مكان لأوهام الحكم التي تداعب رؤوس بعض العسكر، وفي الجانب الآخر، نجد سلوكيات من يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء من أجل حلم داعب أحدهم في منامه، وأمثال هؤلاء هم من ابتلوا الوطن بالحصار الاقتصادي، والتقزم، وربطوا اسم السودان بالإرهاب، وكل هذه الأغلال أزاحها حمدوك، وأعاد إدماج بلادنا في المجتمع الدولي، ولكن من يريدون حكمنا بأي ثمن، مازالوا في غيهم صاغرين، حتى جعلونا مضحكة بمحلليهم، وناطقيهم الرسميين، وهذا كله من ملامح النظام البائد، لذا لم أبالغ عندما قلت إننا عدنا إلى مشهد ما قبل 11 أبريل 2019م، وهذا ما يقتضي إعادة توحيد الصف الوطني في مواجهة أحلام المغامرين والمنتفعين، وخصوصاً، وقد تمايزت الصفوف، وأصبح من السهل التمييز بين الثوريين الحقيقيين، ومن ركبوا موجة الثورة لمصالح ذاتية، وهذا التمايز من هبات انقلاب البرهان.