المفاهيم التي انتجتها ثورة ديسمبر هي حلقة الصراع المهمة، هذه المفاهيم تتصارع مع مفاهيم اخرى لقوى متعددة داخل بنية المجتمع السوداني، كل مفهوم ثوري جديد يستهدف تغييرا في مفهوم مقابل في سلطة المجتمع الموروث، ونسوق أدناه نموذجين.
النموذج الاول: استقالة الدكتور عبدالله حمدوك
مرت استقالة حمدوك بهدوء ولم يهتم بها الشارع الثوري كثيرا، وهو دليل على الوعي والتغيير الذي حدث في العقلية السياسية لدى الشارع، والذي يعكس صعود مفهوم جديد هو تجاوز الجماهير لسلطة الرموز والكاريزما واعتمادها على الموقف، وهو مفهوم ينهي مفهوم القيادة المقدسة ويفتح الباب واسعا لبروز قيادات متعددة ومتجددة بناءا على المواقف والبرامج وليس بناءا على التقديس او العاطفة.
صعود هذا المفهوم ينهي فكرة تاريخية مسيطرة في موروثنا السياسي والمجتمعي عن القائد الابدي والبطل الخارق الذي يغير الموازين لوحده ولا يجب المساس به أو تغييره، ويفسح المجال لسيطرة فكرة المؤسسات والمشاركة في القرار وثقافة ال team work، وهي الفكرة التي صعدت بالعالم الأول إلى موقعه الراهن.
النموذج الثاني: مفهوم الصراع مع المجلس العسكري
الصراع مع المجلس العسكري لا يمثل في مفهوم الثورة صراعا مع الجيش كمؤسسة، وانما يمثل صراعا مفاهيميا مع مفهوم (عسكرسياسي) موروث يسيطر على مجموعة نخبوية داخل العسكريين والمدنيين، ترى هذه المجموعة ان من حق الجيش ان يكون وصيا على العملية السياسية، مع ان هذه الوصاية تعطي الجيش شيكا على بياض للقيام باستخدام سلطة القوة من خلال تقديره الذاتي، مما يدفعه نتيجة لطبيعته المؤدلجة إلى السيطرة بقوة السلاح على القرار السياسي والامني والسيادي والاقتصادي والقانوني في البلاد وقتل الأبرياء وسجنهم وتعذيبهم بفهم انه وصي عليهم ويريد مصلحتهم، رهن الدولة لدى الجيش هو الباب الذي جعل العساكر ينفذون الانقلابات منذ انقلاب ١٩٥٨ بقيادة عبود وآخرها انقلاب ٢٥ أكتوبر بقيادة البرهان.
مفهوم هذه المجموعة بضرورة وصاية الجيش على الحكم هو مفهوم قديم متخلف مسيطر في افريقيا وفي كل دول العالم الثالث، لذلك ما تزال هناك انقلابات في هذه الدول. المفهوم المضاد الذي تقدمه ثورة ديسمبر هو مفهوم سيطرة المؤسسات والقانون على السلطة السياسية والامنية والسيادية والاقتصادية والقانونية، مفهوم فصل السلطات، وتمتع كل سلطة باستقلاليتها التي تفرضها المهنية والقانون، وهو المفهوم الحديث الذي تطبقه دول العالم الأول وتسود به العالم وتنعم في ظلاله شعوبها بالامن والرفاهية.
النموذجين اعلاه مفهومين فقط من مفاهيم جديدة غرستها ثورة ديسمبر، وهناك العديد من المفاهيم والقيم الاخرى المنتشرة التي دفعت هذا الجيل للدفاع عنها ببسالة نادرة والتضحية في سبيلها بارواحه.
لذلك يجب التأكيد على ان نجاح ثورة ديسمبر لا يتمظهر فقط في نجاحها العاجل في اقامة سلطة مدنية او انتخابات عامة حرة، فهذه النجاحات حققتها من قبل ثورة أكتوبر ١٩٦٤ وثورة أبريل ١٩٨٥ ولكنها لم تنجح في معالجة ازمة الحكم وسرعان ما سقطتا بالانقلابات، انما نجاح الثورة الحقيقي يتمظهر في مقدار تغييرها لمفاهيم الناس حول الحكم والسياسة والغاية منهما. معظم الانبياء لم يقيموا حكومات ولكن مفاهيمهم التي تشربها الناس غيرت العالم، لذلك المفاهيم التي يتشربها الشعب من الثورة هي التي ستغير وجه السودان مستقبلا في كل اوجه الحياة وفي مقدمة ذلك شكل الحكم والسلطة. فهل سنركز قليلا ف هذا الاتجاه؟!
يوسف السندي
sondy25@gmail.com