عندما كنت أعمل في شركة الاتصالات القطرية جاءني فراش هندي مودعا بعد ان اعتزم العودة النهائية الى بلاده فقلت له: رفيق انت مجنون؟ تترك راتب بالريال عشان تعيش بالروبية التعبانة؟ فقال لي إنه وعلى مدى عشر سنوات من العمل في قطر استطاع تشييد مبنى من طابقين في ضواحي مومباي، في الطابق العلوي شقتان وفي الأرضي أربعة دكاكين وان ذلك يكفل له ان يعيش “لورد”، وقبل أيام ودعتنا روزي باربوزا عائدة الى الفلبين بعد ان ظلت معنا سنتين فقط، كانت خلالهما جزءا من عائلتنا وبكت هي وام الجعافر طويلا عند لحظة الفراق، واتخذت روزي قرارها بالعودة بأنها جمعت خلال سنتين مبلغا يكفيها لافتتاح مخبز او بقالة في قريتها، يكفل لها العيش في بحبوحة
عشرة سنوات من العمل في دولة خليجية غنية براتب كبير ومدخرات كبيرة لا تعين السوداني على شراء قطعة ارض إلا في أطراف الصحراء، أما بناء بيت في السودان فإنه لا يختلف عن جهد بناء الاهرامات قبل آلاف السنين، لأنه يستغرق سنوات طويلة وأموالا طائلة لأن كلفة تشييد بيت واحد في مدينة كالخرطوم يعادل كلفة امتلاك ثلاثة بيوت في مدينة مثل شيكاغو، وتفيد التقديرات بأن هناك 8 آلاف شقة مملوكة للسودانيين في القاهرة مما جعل المصريين يقولون: أولاد الذين غشونا بحلايب وخدو القاهرة
يحدث هذا لأن حكوماتنا المتعاقبة تريد من الشعب ان يصرف عليها، لا ان تصرف هي على الشعب، وها هو الفكي جبريل الذي بات من حقه التصرف في المال العام بأمر الحاخام البرهان يرفع تسعيرة الكهرباء بنسبة 1000% ويفرض الزكاة على الرواتب (مع ان رواتب 97% من الموظفين لا تصمد لأسبوع، دعك من ان يحول عليها الحول لتبلغ نصاب الزكاة)، ويردد بعض الببغاوات عن المغتربين كلاما مثل: مرطبين ما جايبين خبرنا.. ارجعوا كفاكم!! ويذكرني هذا بذلك اليوم الذي قلت فيه لأمي رحمها الله آمنة فقير إنني قررت الاستقرار نهائيا في السودان فصاحت: أمبا إليلن أويقا أرمود جابجو (يا دوب على كدا الرماد كالنا)، فرغم أنها كانت تتمنى لو أجلس جوارها ليل نهار، إلا أنها كانت تعرف ان عودتي كانت تعني أن من أعولهم من افراد الأسرة سيعانون من انقطاع العون
المغتربون من مختلف الدول في منطقة الخليج يستطيعون تحديد أهداف وجداول زمنية لفترة اغترابهم ليعودوا بها الى أوطانهم، أما السوداني فبلاده تتقدم الى الخلف بخطى واثقة بسبب فساد الحكم ولصوصية الحكام، بينما تمارس كلفة المعيشة الصعود الصاروخي حتى باتت أسعار السلع الضرورية تتغير بضع مرات خلال اليوم الواحد، وإذا قرر المغترب السوداني العودة تصيح أمه: أمبا إليلن أويقا أرمود جابجو، بكل اللغات
وبينما يعود المغتربون من كل الدول الى بلدانهم بعد تحقيق غاياتهم في مدى زمني قصير نسبيا، صار مئات الآلاف من السودانيين يبحثون عن أوطان بديلة، ومن يتابع مواكب السودانيين في واشنطن ولندن وسيدني وتورنتو وغيرها لنصرة ثورة ديسمبر يحسب أن تلك المدن امتدادات لبري والعباسية وجبرا وشمبات (مع الفوارق في درجات الغبشة واللمعة)
وهكذا فليس كل “عرجاء لمراحها”، فنحو مليون سوداني صاروا خواجات بالتجنس، والنزيف مستمر، ولكن المؤلم هو ان خروج زهاء خمسة ملايين سوداني من الوطن بحثا عن الرزق لم يفتح الفرص أمام القابضين على جمر الوطن، ولا يملك الانسان إزاء هذا الوضع إلا ان يقول: يا عزة مشوارك طويل، وحتما سنعبر وننتصر على الفقر والجهل والمرض ولكن لابد من “جكّة” بنفس طويل على أمل ان ينعم جيل الأحفاد بوطن جميل وسالم ومعافى
عباس