تعشعش في أذهان صفوة النادي السياسي نوستالجيا جهيرة وسرية لعهد الاستعمار الإنجليزي. والنوستالجيا تعريفاً هي التشوق إلى شيء ربما لم يوجد في الواقع أصلاً ومع ذلك فالشغف به عند المصاب به عظيم. وتدور هذه النوستالجيا للاستعمار الإنجليزي حول وقائع لم تحدث بالفعل وهي: ١) كنا نتبع لوزارة الخارجية البريطانية لا وزارة المستعمرات فنجونا من كوننا مستعمرة، ٢) ترك فينا خدمة مدنية كفؤة، ٣) كان حكامنا خيار من خيار خريجي أكسفورد وكمبريدج، ٤) بلغنا بمعهد بخت الرضا ذروة التعليم، ٥) عقد الإنجليز علائق إنسانية ودودة مع طبقة الخريجين.
ونكشف في قبائل احتفال عيدنا بالاستقلال عن هذه النوستالجيا ببيان أن متروكات الإنجليز فينا، التي تتشوق إليها صفوة السياسة عندنا، لم توجد أصلاً وأنها “وهم الواهمين”. ونبدأ بنقض مقولة إن الاستعمار ترك فينا خدمة مدنية لا تخر ماء.
الاستعمار براء من الخدمة المدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة المستعمرين قد نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء عليها. ولهذا لم يسلموا من الإبادة في الأمريكيتين واستراليا ونيو زيلنده والجنوب الأفريقي وغيرها لكي تخلو الأرض للغازي الذي جاء ليتملكها بآخرة. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: “إنني أفضل أرض الأهالي عليهم”.
وترتب على غربة دولة المستعمرين عن رعاياها أنها ترفعت عن أن تتوطن بينهم كما تريد ذلك أي حكومة حاقة الاسم لنفسها بالغاً ما بلغت من الاستبداد. فالمستعمر الأوربي يعتزل الأهالي عنوة ليغرق في عوالمه الخاص. ووجدت أفضل تعبير عن نفور المستعمر عن الأهالي في ما كتبه السيد بيلي (1920) من المفتشين الإنجليز في السودان. فقال إنه وصحبه من الإنجليز كانوا ينفقون الليل في حفلات عشاء متلاحقة لا تكاد تنتهي، ورقصها يسر قلوب صديقات وحسان. وأضاف أن الطبقة الحاكمة كانت تصحو صباحاً والسكرة بايتة معها وتتجه إلى مكاتبها لتدير شأن الرعية. وأضاف أن صلتنا بمرؤوسينا (الأجانب وشدد عليها في الأصل، وهم الأهالي السودانيون) ستنتهي حين يحل وقت الغداء. ولن نعاود كرة التعامل معهم إلا في صباح اليوم التالي. فيذهب البريطانيون إلى دورهم الهانئة على النيل بحدائقها المترعة بالسقيا وأشجارها الباسقات بينما يذهب مرؤوسينا الذين “انزَقَلت” بيوتهم عنا وقد تراصت بكآبة في ظهر المدينة الترابي. وزاد بيلي أنه قد يحدث أن نرتب لنجتمع بهم في مناسبات اجتماعية ولكن غالباً ما جاءت ماسخة أملاها الواجب وافتقرت إلى الخيال.
ومن أبلغ ما قرأته في وصف غربة حكومة الاستعمار قول أحدهم إنها دولة مٌفَكَسة (من fax) أي أنها صورة من أصل. والأصل هو الحكومة في حواضر الإمبريالية مثل لندن وإنجلترا ولشبون. فمرجع الحكومة في البلد المستعمر مثل السودان هو الحكومة الإنجليزية. فالإدارة الإنجليزية عندنا مكلفة من قبل حكومة الحاضرة الإمبريالية باستنزاف موارد البلد المستعمر. ومُحَرج عليها ألا تضيع مال دافع الضرائب البريطاني فيما لا عائد منه رفعاً لعناء الأهالي أو شفقة بهم.
وكان ذلك التقتير من وراء “تخلف” جنوب السودان. فكان خارج خارطة الاستثمار الإنجليزي جملة واحدة. فحتى التعليم فيه سندوه للإرساليات التي تريد التنصير قبل كل شيء. وتدير حكومة الحاضرة الإمبريالية مثل لندن مستعمراتها عن طريق وزارة المستعمرات. وإن كان للسودان وضعاً مختلفاً عن بقية مستعمرات إنجلترا فسببه شراكة مصر في استعماره. ولكنه اختلاف أحمد وحاج أحمد. وعليه يصبح من الركاكة بمكان قول صرعى النوستالجيا بأنه كان للإنجليز خدمة مدنية مرموقة يذرفون عليها دموع التهافت.
ومن نتائج اعتزال دولة الإنجليز الاستعمارية المجتمع الذي تديره أنها اصبحت دولة بلا رابط وثيق خاص مع فئة دون فئة مما طبعها بقدر من الحيدة في تدافع السودانيين وظلم واحدهم للآخر. وربما أُعجب الناس بالعدل الذي يتأتى من مثل هذه العزلة. ولكنه عدل ناشئ من تعالي الدولة على المجتمع وتساميها لا انشغالها به، وتورطها فيه والسهر على خدمته. ومع ذلك كان للإنجليز تحالفات سياسية أملت عليهم التحيز لمن ارتبط من السودانيين بهم. وهي تحالفات عابرة يعقدها الإنجليز وسرعان ما يملونها لأنها غير قائمة على ميثاق ثقافي متين. فأقصى هم الدولة المستعمرة هو تأمين الرقعة الجغرافية التي استولت عليها من شغب الأهالي وحسدهم وهي مستعدة للتحالف مع الشيطان لهذه الغاية.
ورأينا قِصر حبل هذه التحالفات الإنجليزية مع قطاعات سياسية وثقافية سودانية. فقد تحالفت الإدارة الإنجليزية مع علماء المشيخة الدينية في أول عهدهم ثم زقلتهم واستبدلتهم بزعماء الطوائف الدينية. وتحالفت مع الأفندية أولاً ثم ألقت بهم على قارعة الطريق حين تمردوا عليها في ثورة 1924 لتصطنع الإدارة الأهلية التي مكنت بها لزعماء القبائل. ثم انقلبت على السيد عبد الرحمن المهدي حين ألح على الحكم الذاتي من داخل الجمعية التشريعية في أوائل الخمسينات وأنشأت الحزب الجمهوري الاشتراكي بزعامة إبراهيم بدري وطائفة من زعماء القبائل المحسوبين على الأنصار. فالحكومة الاستعمارية لا توقر حلفاً. فما عقدت عهداً مع جماعة من الأهالي حتى نكثت عنه. فشاغل الأمن ووساوسه يجعلها تبدل الأحلاف كما يبدل المرء أحذيته. ومن رأي مؤرخ ضليع أن هذا الملل الاستعماري بالأحلاف هو بالضبط ما ذهب بريح المستعمرين. فقد جربت معظم الدوائر السودانية التعامل معهم ثقة منها بعهدهم لها ولم تجد منهم سوى الخذلان. وقنعت منهم ظاهراً وباطناً. ففقد الاستعمار الظهير وسقط من عل في مزبلة التاريخ الشيوعية المعلومة.
IbrahimA@missouri.edu