لا يزال المكون العسكري حريصًا على مواجهة الشارع السوداني بكل السبل، منها حشد المكونات القبلية والطائفية، والتلويح بكل عن كل منعطف، واستغلال الطرق الصوفية، استمرارًا لنهج النظام البائد في استغلال الدين، واللعب على الحس الديني الذي يميز الشعب السوداني.
وقد حاول العسكر إعادة إنتاج نظام الإخوان المسلمين، واستغلوا انقلابهم في 25 أكتوبر 2021م لتعيين عدد كبير من الكيزان، وتشريد كل الذين أتت بهم الثورة، وأطلقوا بالونة اختبار بإطلاق سراح الدكتور إبراهيم غندور والداعشي محمد الجزولي، إلا أن تهيبهم من موقف المجتمع الدولي جعلهم يتراجعون عن هذه الخطوة، وإن كانت الفكرة ستظل تراودهم، ليشمل إطلاق سراح الرؤوس الكبيرة إذا استقر لهم الحكم.
وها هو المؤتمر الوطني يعود ليرتع في المشهد السياسي بدعوى مناهضة التدخل الأجنبي، وتوجيه رسالة إلى البعثة الأممية “اليونيتامس”، تحت لافتة الحراك الوطني، الذي في حقيقته يغازل البعثة؛ ليكون جزءًا من الحوار الذي أطلقته، ليشمل الأطراف السودانية كلها.
والمؤتمر الوطني كعهده في خلط الأوراق، وإظهار شيء وإضمار شيء آخر، يحاول أن يعود إلى المشهد السياسي بزعم رفض التدخل الأجنبي، وفاته أن السودان في عهده كان تحت الفصل السابع، الذي يعني استخدام القوة في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين، ووقوع العدوان، وتبدأ مواده بالتدابير والعقوبات الاقتصادية والتجارية والحصار الجوي والبحري وصولًا إلى استخدام القوة المسلحة.
والسؤال: من الذي طبخ هذا الوضع المأزوم على نار هادئة، علا لسانها حتى كادت أن تحرقه.
إنّ هذا الوضع هو من صنع المكون العسكري الذي أراد إقصاء القوى السياسيَّة، والانفراد بالحكم، وفرض الأمر الواقع، حتى إنّه لم يستطع أن يخرج عن مفردات الديكتاتوريين، وهو يعلن إجراءاته الانقلابية التي وصفها بالإصلاحية.
أراد العسكر أن تكون حالة الطوارئ العصا التي يخيفون بها المواطنين، الذين استهونوا بكل تدابيرهم، حتى لم يعد الرصاص يخيف الشباب ذوي الصدور العالية، وقد أذهلوا العالم بصمودهم في سبيل استكمال مسيرة ثورتهم، والوفاء بعهدهم بأن يفارق بلدهم الدائرة الشريرة، التي تسببها الانقلابات العسكرية على الحكم الديمقراطي، ولا أدل على ذلك من المليونيات التي أصبحت كل يوم.
وما يطرحه رئيس البعثة الأممية فولكر رايتس من حوار يشارك فيه أصحاب المصلحة، حسب تعبيره، يجب أن يفهم على أنه جزء من دور البعثة المعنية بدفع الانتقال الديمقراطي، وتقديم كل ما يحتاجه هذا الانتقال من دعم مادي وتقني، وقد كان للدكتور عبدالله حمدوك دور كبير في إرسال هذه البعثة، التي تحددت مهامها في دعم الانتقال السياسي، ودعم اتفاقية السلام وبناء السلام، وحماية المدنيين، وحشد الموارد لدعم العملية الانتقالية، ويأتي ذلك في إطار الفصل السادس، الذي يتضح اختلافه عن الفصل السابع، فهو يعني بالحل السلمي للنزاع بين الأطراف، عبر التفاوض والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو اللجوء إلى الوكالات الأمميَّة والمنظمات الإقليميَّة، وصولاً إلى العرض على مجلس الأمن.
بالطبع تباينت ردود أفعال قوى الثورة الحيّة من أحزاب، ولجان مقاومة، وتجمع المهنيين، ومع أن أفعال المكون العسكري وأحلام الانفراد بالسلطة تبدو منفرة، وداعية إلى مقاطعته، وعدم العودة إلى الشراكة مرة أخرى، إلا أن الفعل السياسي يقتضي الانخراط في الحوار، وإيصال وجهة نظر قوى الثورة، والاعتماد على مواد إعلامية موثقة لما لاقاه الشارع من انتهاكات، ولما دفعه من تضحيات عظيمة من أجل الحفاظ على ثورته، وخصوصًا أن هذا التدخل الأممي فرضه موقف الشارع الرافض للانقلاب.
وقبل بدء أي حوار ينبغي أن تصل قوى الثورة إلى مشترك عام، حتى لا تبدو منقسمة، وإذا لم يجر ذلك ستكون هذه المبادرة الأممية سببًا رئيسًا في تشظيها، وتوسيع شقة الخلاف بينها، ليمثل ذلك مخرجًا للمكون العسكري غير القادر على أن يحرك ساكنًا اليوم.
ويظلُّ استمرار حراك الشارع مهمًا للغاية، وخصوصًا أن معتصمي الموز يتجهون إلى التحشيد من أجل تأكيد زعمه أن المتظاهرين لا يمثلون كل الشعب السوداني، كما أن المؤتمر الوطني يريد العودة للواجهة بحجة أن يكون الإقصاء لمن أجرموا في حق الشعب السوداني، بينما لا يمكن استثناء أحد منهم، لأن أبسط ما يوجه إلى كل منتم إلى هذا المؤتمر غير الوطني أنه كان شيطانًا أخرس.