العبادي قارئ ومطلّع و(ناقِش)..! وقد تحدث مرة عن تأثير البيئة على لغة الشعر وأخيلته ومفرداته مستشهدا بالحكاية الشهيرة في كتب الأدب العربي الكلاسيكية عن (علي بن الجهم )عندما جاء من البادية وفق إحدى الروايات ومدح المتوكل بقوله (أنت كالكلب في حفاظك للودِ.. وكالتيس في قراع الخطوب) ثم عندما سكن في دار على دجلة جوار الكرخ رقّ شعره ولان.. فقال (عيون المها بين الرصافة والجسر ..جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري) وغير ذلك كثير من الشواهد التي كان يرويها العبادي في بعض أحاديثه حول ترادف المعاني ووقع الحافر على الحافر بين مأثورات الشعر العربي القديم والأفكار الشعرية عامة وبين الشعر الشعبي السوداني.. بل حتى بين الشعر الشعبي القديم في السودان وبين الأغنية الجديدة الحضرية أغنية الحقيبة… وليس كالعبادي في مثل هذه المقارنات…!
وللعبادي حديث موثّق بصوته عن (الدافعية النفسية) في كتابة الشعر و”التقدير المجتمعي” و”مصادر الإلهام”.. وهو تحدث في شعره عن “انفلاق الذرّة” وأسرارها في قصيدته عن هبوط الإنسان على سطح القمر وقوله متسائلاً: “يا الرحت القمر وافينا بالأخبار” :
هل للذرّة أكتُشفت هناك أسرار..؟
أُعدت للرجم تحمل جحيم وشرار..؟
وهل استقبلوك سكّانو بالإكبار..؟
وهل جالسْ هناك نسّاكو والأحبار..؟!
وهل لاقيت هناك سينما ولكونده وبار..؟
كما إنه في ذات القصيدة يذكر بعض التوصيفات الأممية للاحتلال ويقول: (وهل فيهو انتداب أم فيهو استعمار)..؟! وكانت هذه التعبيرات قد شاعت بعد الحرب الكونية وما جاءت به من تصنيفات للاستعمار والاحتلال والانتداب (mandatory) والوصاية والحماية والمحميات والحكم الذاتي الخ..!! والشاعرعتيق يقول في ذلك أيضاً في أغنيته “كلما تأملت حسنك يا رشيق”:
حبك “استعمر” حواسي وللفؤاد أعلن “حماية”
ألف عام في خمسمايه)..
ومثل ذلك في أغنية الحقيبة كثير..!!
العبادي ومن معه من شعراء الحقيبة ومطربيها من الناس الذين يستمتعون بالحياة ويحببونها لمن حولهم ويسعدون أنفسهم والآخرين ويجعلون من حوادث عابرة لا تكاد تلفت النظر مصدراً للتندر والمفاكهة.. وعند العبادي خاصة تجد هذه الروح المتحفزّة لرصد المفارقات والنظر للأشياء والناس بعدسة ذات حساسية عالية تعبيراً عن ميل للمرح والطلاقة مع روح مفعمة بالطرافة ويقظة عقلية وتنبّه لاقتناص النكتة واستدعاء المخزون الشعبي.. ويبدو لك ذلك في حكاية تبدو عابرة رواها العبادي للطيب صالح..ونحن نعرف في المصطلحات الشعبية أو (القافيب) ماذا نعني عندما نقول (فلان شيلوهو القفة) كناية عن (تلبيسه المقلب)..!! في لقاء إذاعي كان الطيب صالح يستحث العبادي للحديث عن يوميات حياتهم في تلك الفترة من الزمن؛ وفي الرد على سؤال الطيب صالح يعيد العبادي صورة ذلك المسرح الارتجالي الضاحك الذي أقيم في المسافة القصيرة بين (مشرع المعدية) وبين الطرماج على هيئة المسرح التلقائي الذي يسمونه في ايطاليا ملهاة الشارع أو(كوميديا دلّارتي)..! يقول العبادي الذي كان يعمل بين عام 2925 1926 (كاتب دوبيا) في محلات بدران بالخرطوم بحري: كنا بنعدي الساعة ستة بي معدية أبوروف ومعانا رجال كبار بنضحك معاهم ونهظّر وياهم زي أعمامنا عبد المجيد رفعت من ناس السراج وعمي حمد عبد النور ومصطفى علي حسين وإبراهيم أفندي سليمان نورين.. بنعدي كلنا في دور واحد وهم بعملوا في مصلحة الوابورات ..طلعنا يوم من المعدية وإذا مرقت منها مرة (إمرأة) بتجرجر في حميل صغيّر وواحدة كبيرة شايل ليها وليد وبعدين بت (بنت) حاجة جبّارة خالص خالص خالص..شايله ليها قفة فوق راسها ومن فوق للقفة بُقجة..المعدية بتقيف بعيد والترماي مسافة منها.. بنمشي مسافة.. بقى الرملة كتيرة…والرملة دي عاثرت البت في السير.. كل مرة تقيف ردفها يلف التوب تقيف تجر التوب وتنزلوا.. بعدين أنا جيت جنبها شلت البقجة البي فوق..قلت ليها:
الشارع رمال ومسافتو جبده ولفه
والردف التقيل للتوب يجابد ولفه
يا شبه الجدي البي النتايل قفا
اخوك شال الرَدف..مين البشيل القفه..؟!
يواصل العبادي: بعدين واحد من الشياب ديل عمي مصطفى قال حمد يشيل القفه..وقعدوا يضحكوا.. وعمي حمد قال أنا اشيل القفه..؟! وقعدوا يتغالطوا أنا اشيلا..ما اشيلا.. منو يشيلا…! وبقت ضحكة..!!
murtadamore@yahoo.com