لقد إنطلقت الدعوات باقامة مؤتمر للحوار السوداني لاستعادة مسار التحول الديمقراطي و ضمان إنتقال الحكم إلى سلطة مدنية، مباشرة بعد إستقالة الدكتور عبد الله حمدوك من منصبه كرئيس للوزراء في الثاني من يناير الجاري، بعد أن إستحال عليه قيادة العملية السياسية و إستعصى عليه تكوين حكومة من الكفاءات الوطنية. و فكرة الدعوة لإنعقاد مؤتمر للحوار السوداني، قد رأيناها في سطور الاتفاق السياسي الذي وقعه دكتور حمدوك مع الجنرال البرهان في نوفمبر2021 ، و سمعنا بمثل تلك الدعوة في خطاب الاستقالة الذي تلاه حمدوك، و سمعنا بذلك و بصورة أكثر وضوحاً في تصريحاتوزير الخارجية الامريكي، و من جهات دولية عديدة أخرى. و مفاد تلك الدعوات ان الوضع السياسي قد غرق في الخلافات و عدم الاتفاق، بجانب غياب التوافق بخصوص الرؤية السودانية للوصول للاهداف و الغايات الوطنية، و بالتالي أصبح من الضروري فتح مسار للحوار السوداني السوداني بمساعدة من المجتمع الدولي.
و بصورة إعلامية تصدى ممثل الامين العام للامم المتحدة لبعثة اليونتامس السيد فولكربيرتس، للاعلان عن تلك الدعوة للمؤتمر الدولي للحوار السوداني السوداني. و في الحقيقة أن البعثات السياسية في العديد من دول الربيع العربي قد قامت بالدعوة لمثل لذلك الحوار، الذي انعقدت جلساته في عدد من العواصم الغربية و أحياناً في دول الجوار، كما حدث للحوار الليبي الذي انعقد مؤخرا في المملكة المغربية. و انعقدت في سويسرا مؤتمرات الحوار اليمني و كذلك مؤتمرات للحوار لسوريا، و كذلك شهدت باريس مؤتمرات للحوار للازمة السياسية في ليبيا. و كذلك انعقدت عدد من الحوارات المتخصصة في الشأن السوداني، في العديد من العواصم الافريقية و الاوربية لا سيما بخصوص بناء السلام في السودان. إذن إدارة حوار لمعالجة المسألة السياسية ليست مسألة جديدة و لا مستحدثة مع الازمة في السودان، بل هي تجربة شهدتها العديد من الدول و المناخات الانتقالية.
إن الحوارات من أجل صياغة مسار التحول الديمقراطي، في ليبيا و سوريا و اليمن، لم تكن سهلة و لم تكن ناجحة بالصورة التي تعيد مسار التحول الديمقراطي كما هو مرجو، و ها هو المجتمع الدولي يعود لتطبيق ذات التجربة في السودان. لا شك إن قيمة الحوار في الاوضاع الانتقالية أمر مهم و ضروري، لكن من المهم إدراك إن لكل تجربة خصوصيتها، و لا يمكن أن تكون التجربة في السودان مشابهة بالضرورة مع الاوضاع في ليبيا أو سوريا او اليمن. واضعين في الاعتبار ان تلك الدول مازالت تعاني من مشاكل و تداعيات الحوارات الفاشلة التي لم تراعي خصوصية الاوضاع السياسية بعد إزالة الدكتاتورية. يُعزي الكثير من المحللين فشل تلك الحوارات الى منهجية الحوار و طريقة تحديد قضايا الحوار. و هذا ما يخشاه السودانيون على مسارهم السوداني و من ان تنحرف الاجراءات الى مزيد من التعقيد بسبب اختيار الوسائل و المناهج الغير صحيحة في ادارة ذلك الحوار.
من المهم من حيث المبدأ، أن يكون الحوار سوداني خالص، ولا ضير في ذلك من الاستفادة من الدعم الدولي لهذه العملية، في التنظيم و التمويل و دعم المجموعات الضعيفة في الالتحاق بالحوار و المشاركة فيه بفعالية. إن حوار من أجل الديمقراطية و السلام و العدالة، مهما كان مبعثه، أو مبتدروه، فانه يجب ان يكون حواراً سودانياً خالصاً، يناقش هموم و قضايا الشعب السوداني الذي ظل يسكب الجهد او الفكر و الروح في سبيلها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
مع مراعاة التعقيدات السياسية المشهودة، فإن أي حوار من أجل بناء الديمقراطية و السلام الدائم في السودان، يجب ان يتصف (بالديمقراطية و الشمول و الشفافية)، مثلما يجب ان يكون مملوكا للشعب و يستهدف بناء الديمقراطية و السلام و الرفاه للاجيال الجديدة، و ليس ترحيل الازمة و فرض مُعالجات وقتية لتحقيق مَكاسِب سياسية لتك القوى او تلك الفئة، سواء على الصعيد الوطني او على الصعيد الدولي. و بالتالي من المهم في الحوار السوداني من أجل إستعادة المسار المدني للتحول الديمقراطية و بناء السلام، ان يراعي ما يلي من تدابير و معايير:
اولا: أجندة الحوار: تقود الاهداف التي يتم تحديدها لاي حوار، الى الغايات المرجوة، و من ذلك تكتسب أهمية وضع الاجندة بحيث تحتوى على مهام و غايات التحول الديمقراطي كما توافقت بخصوصها بصورة مسبقة القطاعات المجتمعية المختلفة منذ بدايات الثورة، و التي تلخصت في شعار (حرية – سلام – و عدالة) و منها تفرعت إلى أهداف كانت قد حاولت الوثيقة الدستورية تلخيصها في المادة الثامنة تحت (اسم مهام الفترة الانتقالية). و بالتالي إن الانحراف بالاجندة، عن الغايات الوطنية، و إجتراح أهداف و أجندة جديدة سيقود بالنتيجة الى فشل الحوار و سيسهم في ادخال البلاد في أزمة طويلة.
من المهم أن يكون الحوار شاملاً و يناقش كل قضايا الحكم الديمقراطي و ضمان مشاركة المواطنين في الحكم عبر مؤسسات الحكم الديمقراطي و ضمان كفالة المساواة و عدم التمييز. يجب ان يشمل الحوار من حيث الموضوعات، قضايا السلام و الحرب و العدالة الانتقالية و التنمية المتوازنة. من المهم ربط قضايا الحكم الديمقراطي مع موضوعات إستدامة السلام.
ثانيا: المُشاركون في الحوار: إن المؤتمر المزمع انعقاده للحوار حول قضايا التحول الديمقراطي، لن تكون له مشروعية و سند شعبي، ما لم يكن للشعب دور مباشر في مداولاته و في تنظيمه و تحديد موضوعاته. إذن يتم تحضير قائمة المشاركين بحيث تشمل كل اصحاب التغيير و مُناصري الديمقراطية و قادة النضال ضد الدكتاتورية بمختلف الصيغ منذ ليلة الثلاثين من يونيو1989. و هو نقاش بين انصار الديمقراطية و السلام بمختلف مكوناتهم، و ليس بين (انصار الديمقراطية) و (انصار الديكتاتورية) لان إختلاف الغاية من الحوار سيقود إلى فوضى، فمن المهم أن تتوحد الارادة من خلال تحديد طبيعة المشاركون في الحوار بصورة دقيقة من خلال تحديد معايير المشاركة. ليس من صالح الحوار الوطني ان يتم إعادة إنتاج عناصر الدكتاتورية، و إلحاقها بالحوار من خلال إلباسهم لباس جديد و تسميتهم باسماء جديد، لان ذلك سيفقد الثقة في العملية برمتها و بالتالي و سيحكم على الحوار بالفشل و سيضع المؤسسات الدولية المُشاركة في تنظيم الحوار في خانة أعداء الشعب و الثورة السودانية.
لابد ان تشمل المشاركة كل اطياف المُجتمع السوداني الداعمة للتحول الديمقراطي، و السلام، و المتضررين من الدكتاتورية و الحرب الغاشمة. و بالضرورة ضمان مشاركة الذين قام إنقلاب 25 اكتوبر باقصائهم قَسراً، بما في ذلك الحَكومة المدنية الانتقالية و لجانها بما في ذلك لجنة تفكيك التمكين و لجنة التقصي في مَجزرة القيادة العامة، و أن تشمل بشكل مَلحُوظ المرأة السودانية لما لديها من مصلحة في كفالة الحريات و استدامة الديمقراطية و السلام، و الشباب من قادة مسيرة التغيير. و المواطنين في المنافي و دول المهاجر و الاغتراب و في معسكرات النزوح و المواطنين ذو الاحتياجات الخاصة، و الاقليات من المجموعات الدينية.
ثالثاً: تيسير الحوار: مثل اي حوار يستهدف التحول الديمقراطي، يجب ان تتسم عملية تنظيم الحوار بالصفة الوطنية، وان يعود أمر تحديد موضوعات الحوار الى المشاركون السودانيون. و لكن الملكية السودانية للحوار لا تعني بالضرورة قفل الابواب امام الدعم الفني و اللوجستي و المادي، لتنظيم الحوار و كذلك لتيسير النقاش بين الاطراف السودانية المعنية. إن الحوار السوداني لاستعادة المسار المدني للتحول الديمقراطي، يستلزم ان تدعمه الدول و المؤسسات التي يشهد لها السودان بدعمها للديمقراطية، و حقوق الشعب السوداني في العيش الكريم.
ما هي الدور الذي من الممكن أن تلعبة بعثة اليونتامس؟ إن بعثة اليونتامس، و بموجب قرار مجلس الامن 2524 تتمتع بتفويض عريض لمساعدة الشعب السوداني لمعالجة قضايا الانتقال، وصولا الى حكم ديمقراطي و سلام دائم. و السودان دولة عضو في الامم المتحدة منذ تاريخ استقلاله، و له من الحقوق مثلما لديه التزامات تجاه صيانة الامن و السلم الدوليين. و الامم المتحدة لا تتوسط من أجل الاتفاق بخصوص قضايا الديمقراطية و حقوق الانسان، فهي بموجب مبادئها ليست محايدة تجاه تلك المبادئ لان تلك المبادئ من قلب القيم التي يقوم عليها ميثاق الامم المتحدة. و بالتالي يجب ان تكون الامم المتحدة في خندق دعم تلك المبادئ و ليس للتفاوض بخصوصها. و بالتالي الانسب للامم المتحدة في السودان ان تقوم بموضوعات الادارة و التنظيم و الرصد و المراقبة. و أن تساعد من النواحي الفنية في ترشيح قائمة من الخبراء الذين بمقدورهم قيادة الحوار و يتمتعون بثقة الاطراف السودانية. إن اي تدخل غير محسوب من الامم المتحدة في إجراءات هذا الحوار سيسهم في تعميق الخلاف و قد تجد البعثة الاممية في وضعية خطيرة متصلة بحياديتها و مهنيتها في النزاع السياسي الماثل.
advosami@hotmail.com