صبيّة في غاية الجمال والجاه، ولدت عام ١٨٤٤ ووافتها المنية في غربتها في بلاد الصقيع في عام ١٩٢٤. من هي هذه المجهولة المفقودة يا تُرى؟ هجرت الأميرة أهلها من أجل رجل يعتنق دينا غير الذي تعتنقه؟ بكل بساطة هي الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنزبار وهي سليلة عائلة البوسعيد التي حكمت سلطنة عمان وزنزبار في أواخر القرن الثامن عشر إلى ما بعد ستينات القرن العشرين. هذه الحسناء المفقودة اعتنقت المسيحيّة وعُمِّدت بإحدى كنائس مدينة هامبورج عن ارغام من أهل زوجها الألماني حتى تغدو زوجة صالحة له على سنة الكاثوليكيين وملّة المسيح عليه السلام. وقد تمّ الزواج بكنيسة العذراء بمدينة هامبورج.
سالمة أو إيميلي رويتا، اسمان لنفس الشخصية المنحدرة من تلك السلالة التي حكمت في تلك الحقبة زنزبار وسلطنة عمان. لقد أفلحت الأميرة فوثقت قصتها المريرة بنفسها وبلغة غير لغتها وطبعت في أوائل القرن المنصرم وصدرت عنها ترجمة إلى اللغة الإنجليزية؛ وفي الآونة الأخيرة صارت قصتها واقعا معاش، إذ نجد الكثيرات من أولئك النسوة اللائي تركن دينهن بسبب العشق والحبّ اللاذع والحبّ لا يعرف الأسباب! تسرد سالمة في هذا الكتاب قصتها مع زوجها الذي لم يدم لها طويلا وابنيها، الذي صار أحدهما بروفسير في مادة التاريخ الشرقي المختص بسلطنة عمان. شاءت الظروف أن هجرت سالمة قصر أبيها ورغد العيش في كنفه هاربة من زنزبار إلى اليمن ومنه إلى مارسليا ثم إلى مسقط رأسها الجديد بمدينة هامبورج الألمانية، لتعيش مع من اصطفاه فؤادها المجروح؛ لكن أياد القدر لم تسعدها كثيرا – بعشق يطول وبحبّ سرمديّ رحيقه لا ينضب. فتوفى الله الزوج في سن مبكرة بعد سنة ونصف من الزواج وكان قاد عمل تاجرا ووكيلا لشركة ألمانية تبيع منتجاتها في أفريقيا وبعض مناطق الوطن العربيّ.
المدهش أنني تعرفت على هذه القصة ومن بعد الكتاب عندما كنت في رحلة على إحدى الفنادق العائمة، بالأحرى على متن السفينة “أم أس بريمن” التابعة لشركة هباقلويد العالمية. كانت السفينة تتنقل بين جنوب أفريقيا، سواحل موزنبيق، سواحل مدغشقر الساحرة، جزر القمر بخضرتها السندسية وجزر السيشل الفردوسية إلى أن حطت بنا على سواحل مدينة صلالة البديعة بسلطنة عمان. كانت تقدم على متن السفينة برامج ترفيهية وعلمية منها المحاضرات؛ وكانت حينذاك محاضرات قد شدتني إليها، سيما المحاضرة التي ألقتها إحدى المحاضرات عن الأميرة سالمة، أميرة زنزبار وسلطنة عمان.
ولدت الأميرة سالمة بجزيرة زنزبار من أم شركسية وتوفيت بمدينة يينا بألمانيا الشرقية بعد أن فرق الموت بينها وبين زوجها فصارت، بعد عز وجاه ورفاهية، غربية الوجه واليد واللسان وعديمة الأهل والمال والدين.
لقد بدأت القصة هكذا: حينما بلغت سالمة سن الثانية والعشرين من عمر الزهور تعلق قلبها بأحد التجار المسيحيين من أبناء الألمان الذين قصدوا الديار العربية لبيع بضائع ألمانية من جهة، وبسبب جلب البضائع الشرقية التي كانت تفتقد إليها أوربا حينذاك من جهة أخرى. أحبته من أول وهلة عندما رأته بالقصر. همّ بها وهمت به لكنها لم تر برهان ربها إذذاك. طلبت الأميرة سالمة ذات يوم من جواريها وخدمها أن يعدّوا لها زورقا صغيرا وخفيفا لتستحم بمناسبة العام الجديد. فأعد هؤلاء الزورق واستقلته الأميرة العاشقة واندفعت به إلى البحر حتى وصلت إلى السفينة الإنجليزية فأنزل لها القبطان السلم في الحال ورفعت السفينة مرساها فورا وكان القبطان على علم بخطة هروبها إذ أنها أخبرته في رسالة سالفة بالخطة التي دبرتها للهروب بسبب علاقتها مع عشيقها. ولما رأتها الجواري صاعدة إلى السفينة حسبتها قد اختطفت فصرخن ولكن السفينة قد اقلعت بعيدا، وحينا وصلت إلى عدن نزلت عن متنها الأميرة سالمة وبقيت مدة من الوقت تنتظر حبيب العمر الذي هربت من أجله ومعه بعد التمّ الشمل في عدن.
كان اللقاء في تلك المدينة اليمنية عذبا ومليئا بنشوة اللقيا وهناء الوصل فأغمضت الأميرة عينيها وشدّت الرحال مع عشيقها على متن الباخرة الإنجليزية “هاي كلاير” إلى حيث لا تدري، إلى حيث الحبّ وحيث اللاوطن!! أرستها السفنية في مدينة مارسليا مع عشيقها هاينرش رويتا، التاجر الألماني الذي تزوجها بعد ذلك وأنجب منها طفلين. كان ثمن حبها أن أُجبرت بدخول المسيحية قبل الاقتران، وما كان منها إلى أن تذعن لرغبة الأهل ورجال الدين. تمّت الزيجة ولكن لم يدم سعدها به طويلا فقد تُوفي زوجها الثري بعد قرابة السنة والنصف من الزواج ولم تستطع الحصول على الورثة العظيمة التي تركها وراءه، حيث حكمت المحكمة بعدم مقدرتها، لكونها امرأة وحيدة في ذاك الزمان الغابر، بأن ترثه. أجادت إيميلي رويتا اللغة الألمانية إلى درجه مدهشة فكانت تعبّر من خلالها عن حزنها الدفين وفقدها للوطن، الذي كان يتمثل لها في فقد أهلها ودينها الذي تركته صاغرة رغما عنها. خرج هذا الكتاب في مطلع القرن الماضي ونفذت الطبعة الأولى على الفور وجاءت الطبعة الجديدة بالمكتبات الألمانية قبيل أعوام، في سنة ٢٠٠٦ وبها توثيق لحياتها التي عاشتها ببلاط السلطان بزنزبار، وتدوين لدنياها التعيسة المتأرجحة بين الحب وفقدان الروح. تجدها تكتب والدمع يتقطر بين الأسطر نادبة حظها العاثر حينا جارت الدنيا عليها فأصبحت مسيحية فقيرة دون رجل أو أهل يدفعون عن ضيمها ويضمدون جرحها الغائر. ماتت إيميلي رويتا (سالمة) في عام ١٩٢٤ ودفنت في مقابر المسيحيين بمدينة يينا بألمانيا الشرقية وتركت رسالة أخيرة على قبرها وكأنها تحدّث الأهل: “كل شيء يفنى إلا حبّ الوطن، فهو شعلة في القلب.”.
كانت الأميرة سالمة هي آخر من مات من بين أبناء السلطان سعيد، ومن أولادها رودلف سعيد رويتا، وقد عاش في إنجلترا وعمل محاضرا في الجامعة لمادة التاريخ واشتغل بالتأليف وبخاصة في تاريخ عمان وفيما يتعلق بسيرة جده السلطان سعيد وقد جاء إلى زنزبار في مارس ١٩٣٠ ليرى أهله ومن بقي منهم من بني العرب وليقف على ورثة أمه الضائعة وذكريات لا تعاد. إنها دون أدنى شك مذكرات جديرة بالقراءة (بالإنجليزية أو الألمانية)! (٭ نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم)