يقول شاعر السودان الكبير محمد مفتاح الفيتوري:
أمسِ مرّ طاغيةٌ من هنا
نافخاً بوقَه تحتَ أقواسِها
وانتهَى حيْثُ مَرْ !
نقرأ تاريخ الثورات الكبرى في عصرنا الحديث، فنجد القواسم المشتركة بينها. ولا غرابة في ذلك، فالثورة إنجاز بشري ، تفرضه ظروف متشابهة، مثل القهر والفقر المدقع وتفشي الفساد. حيث تصبح مؤسسات الدولة حكراً لطائفة أو حزب أو جماعة. هنا يكون الولاء للطبقة الحاكمة هو جواز المرور إلى نيل الوظيفة. تندلع الثورات في العالم كله من جملة الأسباب التي أشرنا إليها عاليه. وتتلخص في أنّ الشعور بالظلم هو البركان الذي تنطلق منه شرارة الثورة.
لم تختلف ثورة 18 ديسمبر السودانية – آخر الثورات العالمية العظمى والتي ما يزال شارعها ممسكاً بزمام المبادرة – لا تختلف من حيث مولد السبب المباشر وغير المباشر عن ثورات كبرى سبقتها.. حيث تركت تلك الثورات بصمتها واضحة في تغيير خارطة عالمنا من حيث المزاج السياسي ، وميلاد نظريات في الإقتصاد والعلوم والفلسفة والآداب. فالثورة الفرنسية – أم الثورات الحديثة (1789م-1799) ، والتي قادت إلى ميلاد حلم الملايين بالدولة المدنية ، دولة حكم القانون والتساوي في الحقوق والواجبات، ولدت من رحم الفقر المدقع الذي وقف وراءه تحالف الكنيسة مع أنظمة ملكية طاغية، يسندها الإقطاعيون وملاك الأراضي الجشعين. هذا الثالوث: الكنيسة والأنظمة الملكية الفاسدة والإقطاعيون ، ما كان يمثل في الواقع سوى أقلية من تعداد السكان في معظم بلدان أوروبا والشرق الأقصى. أما الغالبية العظمى من السكان فقد كان حظهم التضور جوعاً، والإقصاء من مؤسسات الدولة الفاعلة مثل التعليم والجيش والوظائف الكبرى. حركت تلك العوامل الهامة غريزة الشعب الفرنسي في الثورة على المؤسسة الحاكمة، فكانت الثورة التي غيرت وجه التاريخ الحديث بميلاد إعلان حقوق الإنسان الذي تمخض عنه المناداة بالحرية والمساواة وسيادة حكم القانون.
ما ينبغي الإشارة إليه أنّ هذا الإنجاز (الثورة الفرنسية) والذي نتج عنه تطور جذري في أنظمة الحكم والعلوم التجريبية وفي الصناعة والزراعة والفنون لم يحدث بين يوم وليلة. ولا في ظرف عام أو عامين. حققت الثورة الفرنسية انتصارها إبان عشر سنوات. ولعل ما أريق فيها من دماء وعنف كان مهولاً. رغم أنها جاءت في زمن يختلف عن عصر الإنترنت والطائرة التي تسبق سرعة الصوت.
لا نقول إن على أي ثورة أن تقتفي طريق الثورات التي سبقتها وقع الحافر. ذلك مغالط لعبقرية أي أمة تنجز ثورتها من رحم تاريخها السياسي والثقافي.
لابد إذن لكلّ ثورة تأتي أن تحمل معها آلياتها وأساليبها العصية على الهزيمة. رأينا ذلك في الثورة البلشفية (1917) وفي الثورة الإيرانية (1979) ، وفي ثورة فيتنام التي قاتل شعبها الإمبريالية ممثلة في فرنسا ثم أميركا لعشرين سنة، وليتحد في دولة انضمت للمنظمة الدولية في 1976م.
قلنا هذا ليعلم شارعنا الثائر ، أنّ قطف ثمرات الثورات الكبرى لا يتحقق بين عشية وضحاها. وأن ميلاد الدولة المدنية الديموقراطية – دولة الحرية والسلام والعدالة – دونه خرط القتاد. لكن كاتب هذه السطور لم يخالجه الشك مثقال ذرة ، مذ حدث إنفجار الثورة الكبير في 19 ديسمبر 2018 ، أنّ هذه الثورة مختلفة عن كل الإنتفاضات قصيرة الأجل في تاريخنا القريب: معركة الإستقلال من المستعمر 1956 وانتفاضة اكتوبر 1964 ثم انتفاضة ابريل 1985. تختلف ديسمبر عن تلك الإنتفاضات بحملها لآليات مختلفة ونمط مختلف في مراوغة العدو ، أعني القوى المضادة للثورة ، المضادة لدخولنا إلى العصر الحديث. تحمل ثورة ديسمبر ثلاثة أسلحة عينية يصعب ترويضها:السلمية والوعي والصمود المدهش من جيل شاب يمثل 64 % من تعداد السكان ، لآخر إحصائية سكانية عالمية في العام المنصرم. ولعل أمضي هذه الأسلحة الثلاثة لثورة ديسمبر السودانية ، والذي أعطاها القدرة على الصمود أمام الآلة العسكرية الضخمة ومؤامرات بعض دول الجوار – وهي تدخل عامها الثالث – سلميتها التي أدهشت العالم.
لقد حاول فلول النظام المباد ممثلين في الدولة العميقة المهيمنة على ما تبقى من الجيش والشرطة والقوات الأمنية والإقتصاد – حاولت هذه الفلول وخلفها المحاور المتربصة شراً بثورة السودان – أن تضع العراقيل مرات ومرات لجر طوفان الثورة السلمية صوب العنف والفوضى. لكن تلك القوى المضادة للثورة تجر أذيال الفشل في كل محاولة.
لقد لفتت سلمية ثورة ديسمبر السودانية أنظار دول العالم على مدى العامين ونصف العام منذ انفجارها الكبير في 18 ديسمبر 2018 م. وقف المحللون السياسيون بانبهار أمام ظاهرة الشباب الذي حافظ على سلمية ثورته رغم القمع وآلة الموت الموجهة إلي صدورهم.
وفوق ذلك فإنّ مراسلي الصحف والفضائيات والمراقبين والسلك الدبلوماسي الأجنبي بالسودان قد حاروا في العدد المهول من النساء اللائي ربما يتقاسمن حشود المتظاهرين مع الرجال بنسبة النصف. حاروا في ثورة تسبق مسيرتها العاصفة في كل مدن وقرى السودان زغرودة إمرأة في الواحدة تماماً (بتوقيت الثورة). حاروا في التنظيم المدهش للجان المقاومة – التنظيم السري الشبابي الذي يقود حراك الثورة. إن ثورة بهذه المواصفات يستحيل هزيمتها يا دعاة تفتيت الوطن السوداني العظيم !
فضيلي جمّاع – لندن