حديث الدكتورة مريم الصادق القيادية بحزب الأمة القومي أعاد إلى الأذهان ذات المشهد المأساوي لاحزابنا الوطنية لجهة افتقادها الرؤية الاستراتيجية، وعدم تعلمها من الدروس البليغة للتجربة السياسية السودانية منذ الاستقلال. لو كانت الدكتورة مريم تنطلق من رؤيا استراتيجية لما شاهدناها ترتبك وهي تحاول الإجابة على أسئلة المذيع (الشاطر) احمد طه، وما نقلت إلى المشاهد السوداني الذي يعاني أصلاّ، كل ذلك الارتباك.
تقول الدكتورة مريم ان رئيس الحزب الجنرال فضل الله برمة (ونحن منذ البداية اندهشنا لتولي جنرال متقاعد رئاسة واحدا من أعرق الاحزاب المدنية في السودان ولو بالتكليف)، سيعلن انصياعه للقرار المؤسسي لحزب الأمة الرافض لاتفاق البرهان حمدوك. وهذا يبدو في ظاهره كلاماّ رائعا…
لكن نحن نسأل الدكتورة مريم، هل قام جنرال الحزب ومعه أمينه العام بالتفاوض وهندسة الاتفاق، خلال كل تلك الأيام من وراء حزب الامة؟؟..ام ان الرفض الشعبي العارم لما تم هندسته، هو الذي جعل الحزب يتراجع عن موقفه ليتماهى مع إرادة الشارع، ليتم تحميل الجنرال ومساعده ما حدث؟.. هل يرفض الحزب من حيث المبدأ مثل تلك الاتفاقيات التي تتم في الغرف المغلقة؟ أم أن الرفض يتعلق فقط بما حدث بين البرهان وحمدوك؟
كل الشواهد تقول ان جنرال الحزب وثلة من القيادات كانت تعمل في ذات الاتجاه الذي تم التوقيع عليه من قبل حمدوك.. ومن المؤسف أن الحزب وأحزاب أخرى ما زالت تتسابق وتتنافس، لطرح وثائق سياسية بديلة للاتفاق الاصل.. متجاهلة أهمية وحدة القوى السياسية في هذه المرحلة السياسية الحرجة للسودان..والمحصلة ما قالته الدكتورة مريم التعامل مع ال انقلاب، كأمر واقع والتحاور معه (دون الاعتراف به)..!!
والسؤال هو لماذا تسعى احزابنا الى القفز فوق إرادة الشارع الذي تقوده لجان المقاومة؟؟..ما الذي يجمع النظام القديم وقيادات هذه الأحزاب التي لم تحقق يوما إرادة الشعب السوداني، ما الذي يجمعها ضد لجان المقاومة؟؟.ّ
الدكتورة مريم خلال حديثها وجهت تحذيرات مبطنة لجهات تعلمها من اي محاولة لتسريب مضمون نتائج حوارات سرية يقوم بها حزب الأمة في الوقت الراهن، مشيرة إلى أن نتائج ذلك التسريب المحتمل ستكون مدمرة..!!…ولكن مدمرة على من؟؟
المفارقة أن وزيرة الخارجية المقالة بواسطة الانقلاب، تمارس نفس العمل غير المؤسسي الذي ترفضه للجنرال فضل الله برمة وتريد أن تفرضه على الشعب
السوداني كافة. فهل مؤسسات حزب الأمة على سبيل المثال متفقة على ما يسمى بتوسيع قاعدة المشاركة من خلال ضم كل من «الاصلاح الان» بقيادة غازي صلاح الدين و«المؤتمر الشعبي» بقيادة علي الحاج، الوجهين الصارخين للجبهة الإسلامية التي حكمت السودان بالحديد والنار طيلة ثلاثة عقود كاملة؟؟
غازي صلاح الدين الذي وصف الإمام الراحل ب «الموهوم» تبوا ارفع المناصب في الانقاذ لنحو ربع قرن من الزمان.. كانت سنوات القتل والسحل والنهب والاستحواذ على موارد الدولة باسم الخصخصة وإحالة عشرات الالاف من أبناء الوطن إلى الصالح العام …وفي تلك الفترة ابتدعت دولة الكيزان اقتصادا موازيا يمكن الجيش وأفراد حزبها الحاكم من مال الدولة، فضلا عن تقسيم السودان. شريكه في ذلك، المؤتمر الشعبي الذي ظل مع حكومة البشير حتى سقوطها، وبالتالي لا نحتاج إلى كبير عناء لحث الدكتور مريم بالرجوع إلى الوثيقة الدستورية ان كانت صادقة في الالتزام بها لاستبعاد هذا المؤتمر الشعبي… هل على الشعب السوداني نسيان جرائم تلك العقود البئيسة من تاريخ السودان؟؟..مريم ابنة الإمام الصادق المهدي تدعو لذلك…!!
قد يكون للدكتورة مريم حجة لاستصحاب الإصلاح الآن في المشهد السياسي القادم، من خلال ذاك الاعلان الخجول لغازي صلاح الدين في يناير 2019 وهو يتأرجح بين بين.. بين الثورة والإنقاذ عشقه القديم. هنا نحيل الدكتورة مريم إلى تصريح لهذا الغازي نفسه يتبرأ فيه من الانسحاب من الانقاذ:
في تصريح لقناة الشروق بتاريخ 2019/1/4 ونقلته شبكة الشروق و(المشهد السوداني)، قال رئيس حركة الإصلاح الآن د.غازي صلاح الدين ان حزبه لم ينسحب من الوثيقة الوطنية والحوار الوطني، وإنما انسحب من الجهاز التشريعي الذي يشارك فيه مشاركة رمزية. وفي نفس،الوقت دعا المؤتمر الوطني للالتزام بتنفيذ مخرجات الحوار. وفي رأيه آنذاك ان المظاهرات تدعو إلى معالجة قضية معاش الناس.(!!)… وهكذا نجد أن الإصلاح الآن كان جزءا أصيلا من الانقاذ حتى سقوطه.. اذن كيف ولماذا تعمل الدكتورة مريم لاعادة الكيزان إلى السلطة بعد تحكمهم في شأن البلاد لوحدهم 30 عاما بعد هذه الثورة العظيمة؟؟…هل هذه الرؤية تعود إلى مؤسسات الحزب ام انها وجهة نظر خاصة بالزعيمة مريم الصادق؟؟…
مرة أخرى يؤكد ذلك غياب المنهجية والرؤية الاستراتيجية داخل أحزابنا الوطنية…وبخاصة تلك الأحزاب الكبيرة التي ظل الإخوان المسلمون يقتاتون عليها ويتخذونها دروعا بشرية في معاركهم السياسية كما حدث ابان النظام المايوي.. بل ويستغفلونها حتى احالوا تلك الأحزاب إلى أشباح سياسية لا تقدم ولا تؤخر في المشهد الوطني شيئا يذكر.
ما زال العشم في الا تعيد أحزابنا التاريخية تلك الحلقة المفرغة من الأخطاء الكارثية للوطن من خلال ممارساتها السياسية. غير أن ما نطقت به الدكتورة مريم الصادق لقناة الجزيرة ليلة أمس (13 ديسمبر 2021)، يشي بخطيئة أخرى وشيكة نأمل إستدراكها من خلال مؤسسات حزب الأمة، بما لا يترك مجالا للأهواء الشخصية كما حدث في حالة الجنرال برمة. فمريم الصادق تقول ايضا أنهم كحزب كبير، لا يخشون من انتخابات مبكرة، وليس لديها مانع للجلوس والحوار حول شراكة جديدة مع المكون العسكري…اغلب الظن ان هذا الكلام ليس خارج التنسيق مع قوى الثورة فحسب، لكنه أيضا خارج التنسيق مع القوى الشبابية الحية داخل حزب الأمة التي تقف مع الشارع السوداني… مرة أخرى هل تغرد مريم الصادق خارج سرب المؤسسية؟..ام ان حزب الأمة يعمل على مقاربة الواقع السياسي بشكل منفرد من دون التنسيق مع الآخرين؟
يبدو أنه من الصعوبة بمكان ترويض احزابنا السياسية وتعويدها على ال (تيم ويرك)، اي العمل السياسي الجماعي، على الرغم من التجارب التاريخية المريرة التي دفعها ثمنها الشعب السوداني تخلفا وضياعا لأحلامه وامانية في حياة كريمة.
على هذه الأحزاب أن تعترف أنها فشلت في الحكم، كما فشلت في المعارضة، وأنها ظلت غير قادرة على تحريك الشارع طيلة 30 عاما من حكم الكيزان. ولا ينسى الشعب السوداني فشل احزابنا الوطنية حتى في إدارة مراحل ما بعد الثورات العظيمة، بعد تضحيات عظيمة يقدمها الشعب. فمتى يا ترى سترد هذه الأحزاب الجميل للشعب السوداني الذي يعيدهم كل مرة إلى سلطة يعشقونها حد الثمالة؟؟!!.
لحسن حظ السودان، أن هناك شارع من الشباب،الباسل يحرس الثورة هذه المرة ولا يفرط فيها.
بالعودة إلى ما صرحت به الدكتورة مريم على جاهزية حزبها كأكبر حزب سوداني للانتخابات المبكرة، لابد من تذكيرها بالآتي:
اولا: على حزب الأمة الا يراهن على نتائج انتخابات 1986، وذلك للأسباب الآتية:
- من مجموع 104 دائرة فاز بها الحزب، كان نصيب دارفور يتجاوز 50% من تلك الدوائر على ما أذكر، وليس من ضمانات لدارفور التي تعرضت لكل هذه الحروب والمتغيرات ان تكون بذات الولاء، ولذلك من الصعب لحزب الأمة المراهنة على تلك الدوائر الانتخابية القديمة.
- ثانيا: الانشقاقات الكبيرة في حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل، حتما سيكون لها تأثيرها على ما تبقى من ولاء في دارفور، فضلا عن التنافس الذي سيحتدم بين المنشقين والحزب الأمة في الدوائر الأخرى.
-ثالثا: اهتزاز ثقة المصوتين لحزب الأمة من خارج الحزب. في انتخابات 1986 كان الرهان كبيرا على الصادق المهدي في كنس أثار مايو وبخاصة ما عرف بقوانين سبتمبر التي وصفها الإمام الراحل بأنها لا تساوي الحبر الذي كتب به. وقد تضمن برنامج حزب الأمة كنس أثار مايو والتصدي للجبهة الإسلامية، لكنه تلكا في ذلك وانتهى إلى حكومة ائتلافية ضمت الترابي وحزبه ما أدى إلى رفضه ما سمي اتفاقية الميرغني قرنق، وبذلك أضاع على السودان وحدة مع الجنوب كانت في متناول اليد باقل الاثمان. وقد مهد ذلك لاحقا إلى انقلاب ذات الحزب الذي راهن على حكومته.
هكذا تخيب احزابنا آمالنا في كافة التحديات والمنعرجات الحاسمة التي تواجه الوطن، وكجيل دفع ثمن الانقاذ غاليا، سواء على صعيد الحريات وحقوق المواطنة، والتمييز لصالح كوادر الحزب الذي مارس أبشع أنواع الظلم، فإننا نحمل حزبي الأمة والاتحادي بالذات ما حاق بنا من كوارث وطنية.. فهما سبب امتداد حكم الكيزان طيلة هذه الفترة بالتراخي والتواطؤ واجهاض كل امل لاستعادة الوطن من براثن الحزب الذي احتله، واستدعى معه دول الاقليم في تبديد كل موارد الوطن.
واذا كان من عشق قديم وتحالف بين الأمة والكيزان، فعلى الدكتورة مريم الانتماء حقيقة وليس انفعالا طارئا للشباب الذي يبدع في ثورته بين بحري وامدرمان والخرطوم… ليتك يا .مريم تلعنين معنا شر الكوزونا المتحور من مستنقع الاستبداد كذبا إلى آفاق الديمقراطية..
ولنا عودة ان شاء الله