عدد من المتغيرات سبحت في النهر السوداني الهادر منذ عامين، ولعلها تتركز في ثلاث، منها انقلاب 25 أكتوبر، واستقالة رئيس الحكومة التنفيذية، وإصرار الشارع على مواكبه وتظاهراته المطالبة بحكم مدني بلا شراكة مع المكون العسكري.
هذه المتغيرات فرضت واقعا جديدا على المستوى السياسي والميداني الذي يتسم حاليا بطابع المواجهة المفتوحة بين المكون العسكري في المجلس السيادي، وبين الشارع السوداني وقواه السياسية والشبابية، وبطبيعة الحال ستكون المعطيات الراهنة مؤثرة بامتياز في تشكيل بعض ملامح التفاعلات السياسية المستقبلية المتوقعة بالسودان.
لعل أول هذه الملامح أن مستقبل رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان الذي أصبح على المحك، واحتمالات أن يختفي من المشهد تتصاعد، حيث تم تحميله مسؤولية تسميم العملية السياسية الانتقالية وخيانة الشريك المدني، بهدف نهائي هو عدم تسليم رئاسة المجلس الانتقالي للمدنيين.
من هنا، أصبح البرهان الهدف الأول للثوار في الشوارع والمواكب، حيث ارتفع شعار “البرهان ضد السودان” سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الشوارع التي عاد إليها زخمها الأول في ديسمبر 2018 والنصف الأول من 2019.
في هذا السياق، تتبلور بعد رحيل حمدوك الضغوط الداخلية علي البرهان، فضلا عن أن عواصم إقليمية قد رأت في أدائه خلال الثلاث الشهور الماضية، نوعا من الإدارة الخاطئة للتفاعلات، وممارسة تسرعًا في تمرير أجندة المكون العسكري بالانقلاب على الوثيقة الدستورية، وما نتج عنه من تعقيد المشهد السياسي والأمني وليس النجاح في احتواء ثورة الشباب كما كان مخططا.
علي صعيد مواز، سيكون على محمد حمدان دقلو (حميدتي) أن يختار مستقبله بعناية وحنكة لا يفتقدها في ظني، وذلك أمام تحديات لا يستهان بها حال رحيل البرهان، وهذه التحديات هي أنه قد خسر نظام البشير حين غير ولائه نحو ثورة ديسمبر 2018، وخسر الثورة والثوار حين انقلب ضد الاثنين متحالفًا مع البرهان في انقلاب 25 أكتوبر 2021، وفضلاً عن خسران حميدتي لمعسكرين أساسيين في المعادلة الراهنة، فإن ولاء قواته ذاتها يمكن أن يكون مشكوكا فيه، وذلك بالنظر إلى ثلاث عوامل:
الأول، أن تغير ولاءات قائد قوات الدعم السريع جعل قواته تشعر أن مستقبلها معه غير مضمون، بل ومستهدف من جانب قوى سياسية، خصوصا وأن من يحارب منهم في الخليج هم قطاع صغير من قوات قوامها يزيد عن 100 ألف مقاتل، تتحمل الموازنة العامة السودانية رواتبهم.
العامل الثاني، أن عمه موسى هلال الذي انقلب عليه حميدتي لصالح البشير يملك نفوذا أخلاقيا وعاطفيا علي جزء كبير من قوات حميدتي من قبيلة المحاميد، وهلال قادر بالتأكيد على تفعيل هذه الورقة، وهو ما يعد في غير صالح حميدتي في هذه المرحلة الحرجة.
العامل الثالث، أن لحميدتي ثروة طائلة لابد وأن يتحسب للحفاظ عليها حين يحسب حساباته السياسية، فالحفاظ على الثروة والسلطة معا يبدو غير منطقي، وربما غير مقبول، خصوصا في حال رحيل البرهان ووجود تحفظات كبيرة من القوات المسلحة السودانية على حميدتي شخصيا، بينما قواته يمكن استيعابها تماما في المؤسسة العسكرية الرسمية للدولة، بل أنه مرحب بها في إطار اتفاق جوبا، وآليات الترتيبات الأمنية.
إذا اختار حميدتي اللعب بالنار ومواجهة مؤسسة القوات المسلحة السودانية التي تضرر بعض مؤثر من مستوياتها العليا بانقلاب حميدتي علي البشير باعتبارهم من الجبهة القومية الإسلامية، فهذا يعني أن حربا أهلية في السودان متعددة الأطراف مرشحة بقوة للاندلاع، حيث من المتوقع أن تنخرط الحركات الدارفورية لمسلحة في معسكر القوات المسلحة الرسمية حفاظا على مصالحها من ناحية، ولاعتبارات عرقية من ناحية أخرى، ومع هذه الفوضى لن يستطيع حلفاء حميدتي الإقليمين إنقاذه على أي نحو.
في السياق السياسي، نشهد تمترسا على المواقف يبدو قابلا للاستمرار، ذلك أن خيانة العهود وعدم تسليم رئاسة المجلس السيادي للمكون المدني، طبقا للوثيقة الدستورية والقيام بانقلاب أكتوبر، وذلك تحسبا لعقاب منتظر من جانب المدنيين وفاء لشهداء الثورة السودانية في مراحلها المختلفة، قد ساهم في إنجاح الأطروحات السياسية المتطرفة، وأصبحت تحوز على مصداقية في أنه لا أمان للمكون العسكري.
هذه الأطروحات قد خونت قوى الحرية والتغيير بعد قبولها شراكة مع المكون العسكري بالسلطة الانتقالية في أغسطس 2019. من هنا، فإن القوى السياسية أصبحت حاليا منساقة مع الأطروحات المتطرفة، وذلك صيانة لما تعتقد أنه شرف سياسي تحاول ترميمه، خصوصا أمام الفئات الشبابية في لجان المقاومة. وهو ما ساهم بشكل مباشر في التخلي عن مناهج التسوية السياسية التي تتطلبها الحالة السودانية.
أما لجان المقاومة الشبابية والتي يقع على عاتقها حاليا جزء مهم من عبء تشكيل المشهد السياسي المستقبلي في السودان، فستكون أمام خيارين:
الأول، هو إما القدرة على بلورة توافق سياسي لن يكون المكون العسكري في المجلس السيادي جزءا منه، ولكن يتم فيه الحفاظ على وزن للقوات المسلحة السودانية في المعادلة السياسية وفتح حوار معها، خصوصًا رموزها المعروف عنها استقلالا عن الجبهة القومية الإسلامية.
أما الخيار الثاني، فهو إهمال معطيات العدالة الانتقالية، والمضي في مواجهة مفتوحة مع المكون العسكري، تمتد للجيش السوداني نفسه، وذلك تحت مظلة شعارات “الدم قصاد الدم، والقصاص لحق الشهداء”، وكذلك مخاصمة القوي السياسية أو قيادتها لهذا المنهج. وهو خيار تشجعه بعض القوى الإقليمية انتصارا لسيناريو إضعاف السودان كدولة تمهيدا لانهيار ربما يكون مطلوبا، خصوصا بعد تصريحات دينا مفتي الناطق باسم الخارجية الإثيوبية المضادة لتدخل خارجي في الأزمة السودانية.
النتائج المتوقعة للسيناريو الأول هو سيادة مناهج صناعة التوافقات السياسية، بما يعني الحفاظ على مؤسسة الدولة، ودعم قدرة الجيش السوداني على طرح وجوه جديدة كأطراف في عمليات الحوار أو التفاوض مع قوى الثورة السودانية. وهو ما قد يساهم في دعم وزن القوات المسلحة السودانية، والاتجاه نحو الانسحاب من الواجهات السياسية، مع الحفاظ على حقها في صناعة القرار الاستراتيجي للدولة السودانية إزاء المهددات الداخلية والخارجية.
أما نتائج السيناريو الثاني، فيعني استمرار الأجهزة الأمنية السودانية في ممارسة عنفها ضد المتظاهرين، ووقوع المزيد من الشهداء، وإحداث سيولة في كل الكيانات السياسية والعسكرية لينتصر النظام القديم وحده، ويكون الباب مفتوحا على فوضى شاملة يتحرك فيها إقليم الشرق لتحقيق مصالحه المتوافقة مع بعض القوى الإقليمية بعيدا عن المصالح الشاملة للدولة السودانية.
المشهد السوداني المعقد والمرتبك مرشح فيه مستقبلا فاعلية لأطراف مؤهلة قد تقود وساطات لها طابع الاستقلال عن المصالح الذاتية، نحو مصلحة استراتيجية إقليمية ودولية، وهي عدم انهيار الدولة السودانية الهشة. وهذه الفاعلية تتطلب الإقرار بحق ومطالب الشعب السوداني في الحكم المدني، واحترام الجيل السوداني الشاب الناهض، وتفهم حالة غياب الخبرات السياسية أحيانا، والتي هي تعبير أيضا عن إخلاص وطني، مع ضرورة الدفع نحو دعم مناخ الحوار بدلا من مناخات الاستقطاب السياسي التي تسود حاليا.
وهكذا يكون المطلب الأول لصناعة مستقبل سوداني يجنح نحو هدوء في مراحله الأولى هو التفاكر حول مخارج سياسية للمأزق الراهن، وبلورة توافق وطني بمشاركة أصحاب المصلحة بصفاتهم وليس بشخوصهم، فغياب بعض الوجوه التي صنعت الأزمة من كافة الأطراف والمكونات أصبح في تقديرنا هو الخطوة الأولى نحو صناعة التوافق المأمول.