أغنيك يا عبد العزيز في صبح الجزيرة الباكر وأنا أتهيأ للحاق بالمدرسة، والصبية من رفقتي، يتسارعون إلى غرف الدرس، فأجزع، وأمي تلاحقني باللمسات الأخيرة لمظهري، اقاومها بعند الصبي، أفلت من بين يديها، وأخرج إلى شارع التراب الممتد، الذي بدأ لتوه في تنفس الحياة، ومصافحة الكون، أركض حتى أدرك في ركضي بيوت الفريق، ناس عمي محمد سالم، إمام الصلاة الضرير، من الشباك الحديدي، تعاين لستة أسرة مهملة، غادرها اصحابها إلى أعمالهم، وتركوها على حالها، حتى تأتيها أم سلمة في منتصف النهار، والكون ساكن لتعدلها، لتستمر دورة الحياة، في رتابتها ولا أحد يعبأ، حتى أنى دهر غادر الغرفة ساكنيها إلى مناحٍ وراء البحر الاحمر، ولم يعودو بعد ذلك أبدا. إبنه (حيدر روك)، كان سائق الوردية في السكة الحديد، وفي الامسيات قائدا لفرقة جاز “سمار الليالي”، الذين لم أشهدهم في أي حفل ولا على خشبة اي مسرح، أبدا، صورة الفرقة اسود وابيض مقاس بوستال، معلقة على حائط الغرفة المهملة، التي تسكنها الأمنيات صعبة التحقيق، في الصورة تشهد، خمسة من الشباب، منبطحون على أرضبة استديو الشواف، متدثرين بجلود نمور وفهود، جلود حقيقة مستلفة من فرقة موسيقى النيل الازرق، اسنانهم بيضاء تشع من خلل ابتساماتهم المرتجلة، ومن وراءهم تنتصب طبول على قوائم، كونغا وتامبلينا، تلاشو من الوجود، بعد أن تدحرج (حيدر روك) من أعلى (مصاطب) استاد مدني، ميتا بالذبحة القلبية، يهتف باسم سانتو الكبير، وكانت المباراة أهلى وإتحاد. في منتصف الزقاق التي تسكن في ناصيته (تملوس)، يسكن طه العجلاتي الذي لا يمل سرد اقاصيصه العسكرية، ومغامراته في حرب الجنوب، ويقول بأنه تقاعد وكيل عريف، وأنه وابو القاسم محمد ابراهيم… كانو ..كده! وحين أتت الإنتفاضة، كتب بخط قبيح على حائط ورشته مليون شهيد لعهد جديد، ولم يكن قد اصابه القنوط من أن يحصل على فيزا للحجاز. ثم تقودني الخطى، فاعبر إلى طاحونة (ستنا) المسكونة بالقط الاسود الكبير، الذي سكن الصبابة، فلم يعد (الحجاري) قادراً على العمل، كلما اقترب من الطاحونة، ( نرررر) القط في وجهه، فانصرف الزبائن عن الطاحونة، وتحولت الطاحونة إلى أثر فرعوني، محروس بلعنة القط، قلت .. بسم الله.. كما أوصتني أمي وانا اقترب من البناء المتهدم، وكأني بالقط يزأر بالداخل، من على منسأة سليمان. في خطوي المتسارع، أتصور نائب الناظر (عوض ابو شيبة)، ينتظر في صبر ضحاياه من الطلبة المتأخرين عن زمن المدرسة، ولم أكن أود أن أكون في زمرتهم، ينتظرهم في صبر، ليمارس بلذة هوايته في طرق رؤوسهم بقبضة يده المكورة الصلبة، كان قد عاد من انتدابه في الحجاز، لم يكن الناس في ذلك الزمان يحبون البقاء بعيداً عن مدن السودان، فعاد وعين نائباً للناظر، أشتهر بالأناقة والنظافة والصرامة، كنت أستعطفه حينما يهم بطق يافوخي، بأن أذكره بأن جدي خليفة، وبيت جدي خليفة ملاصق لبيته في (العشير)، فيكف عنى الأذى. اجرجر خطوي ناهداً، أعبر السوق (الصغير)، سابحاً في جلبة محاورات الخضرجية الفلسفية، والعياشة، وعمال الري والحفريات، على دراجات الرالي وابو ثعابين الصينية الاسبورت، ومطعم أبو ظريفة، الذي يتدافع القوم فيه ويتصايحون بالطلبات، وابناء أبو ظريفة، قوم من الصعايدة الطوال الغلاظ، الذين لا يكفون عن العمل ليل نهار، الخبز يأتي من مخابز اليماني، الشمسي والتوستا، وغبرة تثيرها عربات الأجرة السيهان بيرد الحمراء، تشع المدينة بالضوء والضوضاء، فتدرك سماك السماء وتتفجر لحونا، وحين ادرك قهوة ود العود، يصدح صوته من المذياع الضخم الذي يحتل مكانه، وراء الرجل الجالس في كرسي الخيزران، فكأنما انزع من صفحة من كتاب التاريخ… او كتاب المطالعة او الكشكول.. يصدح صوته ويأتيك بغتة….. صابحني دايما مبتسم يهدأ الروع، وتخلد الروح إلى سكينة الامد والأبد، تتسق المدينة في نسق النيرفانا، يأتيك صوته من الندى، ومن الصدى، ومن النسائم ومن داخل وجدانك، لتدرك كم هي جميلة هذه الحياة، وكم هي مشرقة هذه الشمس، وكم هو خصب هذا التراب الذي نمشي عليه، وكم هي باسقات شجيرات هذا الوطن لك الرحمة