العلاقة مع دولة جنوب السودان في فترة ما بعد نظام الانقاذ: الفرص والتحديات وآفاق المستقبل

العلاقة مع دولة جنوب السودان في فترة ما بعد نظام الانقاذ: الفرص والتحديات وآفاق المستقبل
  • 29 يناير 2022
  • لا توجد تعليقات

السفير عادل إبراهيم مصطفى

تمهيد:

بالنظر لخصوصية دولة جنوب السودان بالنسبة للسودان من حيث الروابط الإجتماعية والتقارب الوجداني بين شعبي البلدين، وما يمكن ان يترتب على هذه الروابط من توفير فرص تمهد لقيام علاقات ذات طبيعة خاصة تقوم علي حسن الجوار والإحترام المتبادل وتطوير وتعظيم التعاون بين البلدين في كافة المجالات، بما يحقق المنافع المشتركة لكليهما، ونظراً للفشل في توظيف خصوصية العلاقة بين البلدين بالصورة المثلي التي تخدم مصالحهما معاً طوال الفترة التي اعقبت إنفصال جنوب السودان. ثم، لما كانت مسألة إدارة العلاقة مع دولة جنوب السودان في مرحلة ما بعد نظام الإنقاذ تشكل واحدة ً من التحديات التي تواجه حكومة الفترة الانتقالية، رأينا أن نتناول في سلسلة من الحلقات أهمية هذه العلاقة، والتطورات التي مرت بها منذ إنفصال جنوب السودان في يوليو 2011، والعقبات التي وقفت في طريق قيام علاقات جيدة ومعافاة بين البلدين، إلى جانب التحديات التي ينبغي على حكومة الفترة الإنتقالية تجاوزها وصولاً الي الإستفادة من الفرص المتاحة واستشراف مستقبل أفضل لهذه العلاقة.

الحلقة الاولي:

إنفصال جنوب السودان وتواصل حالة العداء بينه والشمال

  1. الإنفصال السلس لجنوب السودان عن السودان في 9 يوايو 2011، وخطوة الخرطوم بالاعتراف سريعاً بالدولة الجديدة كأول بلد يعترف بها، أوجدا قدراً من التفاؤل بإمكانية قيام علاقات جيدة بين البلدين، ترتكز على مبادئ حسن الجوار والتعاون المشترك لخير كليهما، خاصة في ضؤ الشعار الذي رفعه الطرفان، وبالأخص الخرطوم لتبرير إنفصال الجنوب، والذي يقول بان بلدين يتعايشان في سلام أفضل من بلد واحد يرزح تحت نيران الحروب. غير أن الذي حدث كان العكس تماماً، إذ تعايش البلدان في اعقاب إنفصال الجنوب وسط أجواء سادتها روح العداء والكراهية، على الأقل على المستوي الرسمي، وفي تقديرنا أن مبررات عديدة ساهمت في خلق هذا الوضع، على رأسها:

أ‌. إرث الحروب الطويلة ومراراتها وبخاصة بعد أن حولتها دولة الإنقاذ إلي حرب دينية جهادية بين مسلمين وكفار، ومؤمنين وخوارج، وأثر هذه الخطوة في تغذية الشعور بالإضطهاد السياسي والإجتماعي وسط مواطني جنوب السودان من حيث العموم، وغير المسلمين منهم بوجه خاص، ونرجح انه لهذا السبب إنطلقت اولي خطوات الدولة الجديدة في جنوب السودان في تحديد هويتها وخياراتها من منطلقات الكراهية للشمال، فحاولت قطع أية صلات لها به، وهو الأمر الذى بدأ واضحاً في خطوتين إتخذتهما الدولة الجديدة، أولاهما السعي للإندماج بشكل كامل، سياسياً وإجتماعياً وثقافياً، في منطقة شرق أفريقيا، وثانيتهما اعتماد الدستور الإنتقالي لدولة جنوب السودان الجديدة اللغة الإنجليزية كلغة رسمية للدولة رغماً عن أن اللغة السائدة وسط مختلف قبائل ومجتمعات جنوب السودان هي اللغة العربية المعروفة بإسم عربي جوبا، وبالتالي فليس بمقدور اللغة الإنجليزية خلق وحدة ثقافية بين المجتمعات المتعددة في جنوب السودان.

ب‌. من ألاسباب الهامة الاخري التي ساهمت في تواصل حالة العداء والكراهية بين النظامين في الخرطوم وجوبا عقب انفصال الجنوب، فشل الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM في الإنتقال من حركة تحرير مسلحة إلى تنظيم سياسي يقود أحلام وتطلعات شعب جنوب السودان نحو بناء دولة السلام والإستقرار والتنمية وبناء علاقات تعاون بناءة مع دول محيطه الإقليمي وبخاصة السودان.

ت‌. يضاف الي أعلاه أن الثقة اصلاً لم تكن متوفرة بين طرفي إتفاقية السلام الشامل، خاصةً ولا تزال أمامهما قضايا عالقة مثل ترسيم الحدود والوضع النهائي لمنطقة ابيي وغيرهما.

  1. ساهمت المبررات أعلاه في تغذية روح العداء وتوسيع درجة انعدام الثقة بين الخرطوم وجوبا بما جعل العلاقة بينهما تقوم على الكراهية والتوتر. وأكثر من ذلك لجؤ أيٍ من الطرفين إلى إيواء ودعم المعارضة المسلحة التي تعمل ضد الطرف الآخر، ليتسبب هذا الوضع في تعثر المفاوضات التي جرت بين الطرفين في بدايات العام 2012 حول القضايا المالية العالقة ذات الصلة بعائدات النفط الجنوبسوداني، مما أدي الي وضع البلدين على حافة الدخول في حرب جديدة على إثر دخول الجيش الشعبي الجنوبسوداني الي منطقة هجليج في أبريل 2012 والإعتداء على منشآت النفط السودانية. وبرغم توقيع الطرفان على ما عرف بإتفاق التعاون في سبتمبر 2012 في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا بتسهيل من آلية الإتحاد الافريقي رفيعة المستوي AUHIP، وهو عبارة عن إتفاق إطاري وقعه رئيسا البلدين زائداً ثمان إتفاقيات تعالج القضايا العالقة بين البلدين في المجالات الامنية والاقتصادية والتجارية والهجرية وغيرها. ولكن برغم ذلك لم يطرأ أي تحسن يُذكر في العلاقات بين البلدين، إذ لم يتم تطبيق أىٍ من الاتفاقيات الموقعة فيما عدا اتفاقية الترتيبات المالية الإنتقالية ذات الصلة بعبور النفط الجنوبسوداني لأراضي السودان، وذلك بسبب اعتماد دولة جنوب السودان على عائدات النفط بصورة كاملة، وحاجة السودان للموارد المالية التي يجنيها من رسوم عبور النفط ومعالجته ونقله وما إلى ذلك.

الحلقة الثانية:

دور السودان في عملية السلام في جنوب السودان وأثره على العلاقة بين البلدين

لم تهنأ دولة جنوب السودان الوليدة بالسلام طويلاً حتى تتفرغ لبناء وتأسيس الدولة ومعالجة القضايا العالقة مع الخرطوم، إذ سرعان ما دخلت في حرب أهلية طاحنة في أواخر عام 2013 , الأمر الذي أدي إلى خلط الأوراق تماماً، وبروز تساؤلات مشروعة حول مقدرة هذه الدولة الجديدة على مواجهة تحديات تحقيق السلام ثم وضع مرتكزات بناء الدولة التي على رأسها بناء السلام وتحديد إستراتيجيات واسس علاقاتها الخارجية وبخاصة العلاقات مع دول محيطها الإقليمي التي تتصدرها العلاقة مع السودان، وتسوية القضايا العالقة معه. وعلي أية حال ساعدت هذه الحرب الأهلية لاحقاً في تهيئة الظروف لتحسين العلاقة بين السودان وجنوب السودان من خلال إتاحتها الفرصة للخرطوم لأن تلعب دورا مهماً في إقناع أطراف الحرب الجنوبسودانيين لوقف الحرب والمصالحة، وذلك من خلال عضويتها في الهيئة الحكومية للتنمية IGAD، التي رعت محادثات السلام بين الاطراف المتحاربة في جنوب السودان. وأما دوافع الخرطوم لأيقاف الحرب في جنوب السودان فتمحورت في تقديرنا حول الضائقة الأقتصادية التي أخذت تحسها وتتأثر بها جراء فقدان ثلثي إنتاجها من النفط لمصلحة جنوب السودان، وبالتالي رأت إستخدام وتوظيف نفوذها وتأثيرها على القيادات الجنوبسودانية لوقف الحرب، وذلك وصولاً الي تحسين العلاقة بين الجانبين بغية تحقيق فوائد إقتصادية من خدمات عبور ومعالجة ونقل وتصدير نفط جنوب السودان. ودون الخوض في تفاصيل أكثر حول هذه الدوافع التي قادت الخرطوم لأن تلعب دوراً مهماً في إيقاف نزيف الحرب في جنوب السودان، فقد ساهم هذا الدور في تحسين العلاقة بين الخرطوم وجوبا بصورة كبيرة. وقد برز الدور السوداني في أعقاب فشل جهود الوساطة التي قادتها الهيئة الحكومية للتنمية IGAD بدعم من الإتحاد الأفريقي والإتحاد الأوروبي ودول الترويكا وبقية الشركاء الدوليين والإقليميين في إحراز تقدم يذكر في إتجاه تحقيق سلام دائم في جنوب السودان، إذ أسفرت هذه الوساطة عن توقيع الإتفاقية التي عرفت بإسم “إتفاقية تسوية النزاع في جنوب السودان ” ARCSS في أغسطس 2015 في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، والتي لم تفلح في وقف القتال بين قوات الرئيس سلفا كير وقوات نائبه الاول د. رياك مشار لأكثر من ثلاثة أشهر، هي الفترة من أبريل 2016، تاريخ عودة د. مشار إلي جوبا وحتي يوليو 2016، حيث وقعت إشتباكات بالقرب من القصر الرئاسي في يوم 9 يوليو 2016 بين القوات الحكومية وقوات د. رياك مشار أثناء إجتماع للرئيس سلفا كير و د. مشار داخل القصر. وقد تجاوز عدد ضحايا تلك الإشتباكات ال 100 قتيل، وبالتالي أعلنت تلك الأحداث المؤسفة إستئناف الحرب مجددا بين قوات الزعيمين.

إزاء هذه التطورات، وتجنباً لانهيار اتفاقية تسوية ألنزاع في جنوب السودان، طرحت الهيئة الحكومية للتنمية IGAD بدعم من شركائها الدوليين والإقليميين المبادرة التي عرفت بـ “مبادرة تنشيط اتفاقية تسوية النزاع في جنوب السودانRevitalization of the Agreement “، وذلك من خلال عقد منبر عالي المستوي بمشاركة جميع أطراف النزاع في جنوب السودان وأصحاب المصلحة وممثلي الاطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة. وقد عقد المنبر عالي المستوي بالفعل عدداً من جلسات التفاوض باديس أبابا، ولكنها لم تحقق تقدماً يذكر سوي توقيع إتفاق لوقف العدائيات وحماية المدنيين والوصول الإنساني في ديسمبر 2017، ولكنه لم يصمد أكثر من اسبوع واحد، ليتم خرقه بواسطة القوات الحكومية وقوات د. رياك مشار، وعليه قرر رؤساء دول وحكومات الهيئة الحكومية للتنمية IGAD في قمتهم الـ32 التي عقدت بأديس أبابا يوم 21 يونيو 2018 تحويل ملف مفاوضات السلام بين الفرقاء الجنوبسودانيين الي الخرطوم، وتفويضها بالقيام بالآتي:

‌أ. استضافة وتسهيل لقاء مباشر بين الرئيس سلفا كير والدكتور رياك مشار.
‌ب. التوسط بين جميع الفرقاء الجنوبسودانيين بغية التوصل لتوافق حول قضايا الحكم والترتيبات الأمنية (الفصلين الاول والثاني من اتفاقية تسوية النزاع في جنوب السودان ARCSS).
‌ج. المساعدة في تحسين اقتصاد جنوب السودان من خلال ترتيبات ثنائية بين البلدين لتطوير وتعزيز التعاون في مجال النفط.

استطاعت الخرطوم تحقيق نجاح لافت في إنجاز هذه المهام التي فوضتها IGAD للاضطلاع بمهمة إنجازها، بما جعل توقيع الإتفاقية المنشطة لتسوية النزاع في جنوب السودان R-ARCSS أمراً ممكناً، خاصة وأن قضايا الحكم والترتيبات الأمنية التي إستطاعت الخرطوم إقناع الفرقاء الجنوبسودانيين بالتوافق حولها، تعد هي القضايا الأكثر تعقيداً لجهة أنها محور الخلاف الرئيس بين اطراف النزاع الجنوبسودانيين، وعليه فقد ساهم الدور الذي لعبته الخرطوم في تمهيد الطريق لتوقيع الإتفاقية المنشطة لتسوية النزاع في جنوب السودان R-ARCSS في 12 سبتمبر 2018 في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا، وهي الإتفاقية التي ساهمت في وقف القتال بين قوات الرئيس سلفا كير وقوات د. رياك مشار، وعودة الأخير ليتبوأ منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ، ولا يزال تطبيق الإتفاقية يجري حتي تاريخه.

الامر الذي يهمنا من هذا السرد هو تأثير الدور المحوري الذي لعبته الخرطوم في توقيع الإتفاقية المنشطة لتسوية النزاع في جنوب السودان على العلاقات بين الخرطوم وجوبا على المستوي الرسمي. وفي هذا الصدد يمكن القول ان ذلك الدور قد أحدث إختراقاً مهماً ساهم في تحسين العلاقات بين الطرفين علي المستوي الرسمي بصورة كبيرة للغاية، وأما علي المستوي الشعبي فقد وجد الدور الذي لعبته الخرطوم، والرئيس المخلوع عمر البشير علي وجه الخصوص، تقديراً كبيراً إنعكس في الإستقبال الشعبي الحاشد والإحتفاء الكبير الذي حظي به الرئيس المخلوع حين زيارته جوبا في إكتوبر 2018 للمشاركة في الإحتفال الذي اقيم بمناسبة توقيع الإتفاقية المنشطة R-ARCSS، والذي تم تكريمه خلاله بمنحه درجة الدكتوراة الفخرية في دبلوماسية السلام من قبل جامعة جوبا.

الحلقة الثالثة:

ردود الفعل الجنوبسودانية تجاه الإطاحة بالرئيس البشير

  1. إستقبلت دولة جنوب السودان الإطاحة بالبشير بمشاعر إمتزج فيها القلق والخوف والحذر والاسف والترحيب والفرح. وقد إنصب جل الإهتمام بالأمر، علي مختلف المستويات الرسمية والإعلامية والشعبية، بمدي تأثير وتداعيات إختفاء البشير عن المشهد علي العلاقة بين السودان وجنوب السودان، وكيف يمكن أن تتعاطي خرطوم ما بعد البشير مع هذه العلاقة، وما الذي يمكن أن يحدث لها، خاصة وإن تجارب الثورات الشعبية السابقة (اكتوبر 1964 وأبريل 1985) لم تنتج أية تحولات إيجابية في سياسات الخرطوم تجاه جنوب السودان، إذ إستمرت ذات سياسات الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر نميري تجاه جنوب السودان، وعليه تركز إنشغال مختلف الأوساط الجنوبسودانية علي ما الذي يمكن أن يترتب علي التغيير الذي حدث في السودان وتأثيراته المحتملة علي أجواء العداء والكراهية التي كانت سائدة بين الخرطوم وجوبا في خلال الفترة التي أعقبت إنفصال الجنوب، وبالتالي برز التساؤل المهم حول مدي إمكانية أن يساهم ذهاب نظام الإنقاذ في تمهيد الطريق لتسوية القضايا العالقة بين البلدين كقضايا ترسيم الحدود والوضع النهائي لمنطقة أبيي ومعاجة الديون الخارجية، الي جانب مدي أمكانية مساهمة التغير في إستنهاض الإرادة السياسية السودانية لتنشيط وتفعيل إتفاق التعاون بين البلدين، أم أن سودان ثورة ديسمبر2018 المجيدة سيمضي في ذات طريق ثورتي إكتوبر 1964 وأبريل 1985 فيما يخص إدارة العلاقة مع جنوب السودان، بمعني أن سياسات الخرطوم تجاه جنوب السودان ستستمر كما كانت منذ فجر الاستقلال.
  2. وأما الأمر الآخر الذي إستأثر بإهتمام دولة جنوب السودان على إثر الإطاحة بنظام الإنقاذ فهو التأثير المحتمل لغياب عمر البشير عن المشهد على عملية تطبيق الإتفاقية المنشطة لتسوية النزاع في جنوب السودان R-ARCSS، خاصة أن البشير والرئيس اليوغندي يوري موسفيني هما الضامنان الرئيسان لتطبيق الإتفاقية. ومع ذلك لا نستطيع الزعم بأن شعب جنوب السودان قد تاسف لذهاب البشير، لأنه مثله مثل شعب شمال السودان، قد عانى الأمرين من نظام الإنقاذ، وبخاصة من استثماراته في إشعال الحروب من أجل البقاء على سدة الحكم، وتحويله الحرب في الجنوب إلي حرب ذات طابع ديني جهادي بين مسلمين وقوم كافرين. وأما مصدر القلق الأكبر وسط مختلف الأوساط الجنوبسودانية تجاه ما يجري في السودان فتمثل في الخوف من أن ينزلق السودان الي حالة من الفوضى الشاملة تلقي بظلالها السالبة على جنوب السودان. وأما الاوساط الشعبية في جنوب السودان وعلى رأسهم أنصار الزعيم د. جون قرنق فقد فرحوا بسقوط نظام الإنقاذ، وتفاءلوا بأن يُفضي سقوطه إلى تغيير حقيقي في سياسات الخرطوم تجاه جنوب السودان يعبد الطريق لقيام علاقة جديدة مبرأة من عيوب الماضي، تحقق مصالح البلدين والشعبين. وفي تقديرنا أن هذا التفاؤل لم ينطلق من فراغ، بل إستند الي مبررات موضوعية نشير إلي أهمها في الآتي:
    أ‌. شعارات ثورة ديسمبر المجيدة المتطلعة لبناء سودان جديد ينعم بالحرية والسلام والعدالة ونبذ العنصرية والجهوية، وبالتالي بناء وطن يسع جميع أقوامه ويساوي بينهم، تلامس الوجدان الثوري المرتبط بالزعيم القائد د. جون قرنق.
    ب‌. ما أظهرته ثورة ديسمبر المجيدة من إرادة شعبية واسعة لبناء علاقات جيدة بين السودان وجنوب السودان، وتعظيمها للزعيم د. جون قرنق، فضلا عن تحميل نظام الإنقاذ مسؤولية فصل جنوب السودان، وعجزه عن بناء سلام مستدام وعلاقات تعاون بناءة معه.
    ت‌. وضع تحقيق السلام الشامل في السودان على رأس أهداف الثورة، وما يعنيه ذلك من توفر الإرادة الثورية لوقف الحروب وإبرام اتفاقيات سلام مستدام مع فصائل المعارضة المسلحة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور، وبالتالي إمكانية أن يفضي ذلك الي بناء الثقة وتحسن العلاقة بين السودان وجنوب السودان.
    ث‌. ويضاف إلى أعلاه أن أحد سبل معالجة الأزمة الإقتصادية التي أشعلت فتيل الثورة في السودان يتطلب التعاون مع جنوب السودان في كافة المجالات التي على رأسها مجالي النفط والتجارة.
  3. علي أية حال تمثلت إحدي أهم ثمار ثورة ديسمبر المجيدة فيما يخص العلاقة بين السودانيين , في انها مكنت من إعادة الثقة التي كانت مفقودة بين الخرطوم وجوبا، ويمكن أن نقول انها أعادت الثقة بين الجانبين بصورة كاملة، الشئ الذي دفع جوبا الي ممارسة الضغوط علي عناصر الجبهة الثورية بمختلف مكوناتها والحركة الشعبية – شمال، جناح القائد عبد العزيز الحلو، حلفاء الأمس ضد الخرطوم، من أجل الانخراط في محادثات سلام مع السلطة الإنتقالية السودانية، وهي المحادثات التي جرت برعاية الرئيس الجنوبسوداني سلفا كير ميارديت، وتمثلت أهم نتائجها في إتفاق السلام الذي تم توقيعة بين السلطة الإنتقالية السودانية والجبهة الثورية بجوبا في إكتوبر 2020. وما يهمنا هنا هو ما تعكسه هذه المبادرة الجنوبسودانية من دلالات على بلوغ ثقة جوبا في الخرطوم أعلي الدرجات، الأمر الذي يفسح الطريق أمام السلطة الإنتقالية في الخرطوم لإستثمار هذه الثقة لبناء علاقات تعاون مثمرة وذات فائدة للبلدين.

الحلقة الرابعة:

العلاقة مع دولة جنوب السودان في الفترة الإنتقالية: الأهداف والفرص

  1. مما تقدم يمكن أن نخلص إلي القول بأن إدارة العلاقة مع دولة جنوب السودان تُعد واحدةً من التحديات الهامة التي تواجه حكومة الفترة الإنتقالية، بل بإمكاننا القول بأن الكيفية التي ستدار بها هذه العلاقة يمكن أن تكون مؤشراً لقياس مدي التغيير الذي جرى بالسودان نتيجة لثورة شعبه المجيدة علي مستوي سياسته الخارجية، وذلك بإعتبار الفشل في إدارة هذه العلاقة بالصورة المثلى طوال الفترة منذ الإستقلال من حيث العموم، ثم بطبيعة الحال بحكم خصوصية وأهمية دولة جنوب السودان بالنسبة للسودان علي خلفية حقائق الجغرافيا والتاريخ، وبالتالي إختلافها عن كافة دول جوار السودان الاخري من حيث الإرتباط الوجداني والعضوي بالسودان وامنه القومي بمفهومه الواسع الذي يستوعب شتي الأبعاد السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية. ولذلك فمن المهم إدارة العلاقة من خلال منظور جديد يضع قضية تطوير وتعظيم المصالح المشتركة مع دولة جنوب السودان وحسن إدارتها كهدف إستراتيجي يُبنى على المعطيات التالية:

‌أ. يتشارك السودان وجنوب السودان أطول حدود برية في القارة الأفريقية، وهي حدود مأهولة بالسكان الذين تتداخل وتترابط مصالحهم الإقتصادية والإجتماعية.
‌ب. الإرتباط الوجداني الكبير بين شعبي البلدين، وما يشكله من رصيد جيد لإقامة علاقات متميزة بينهما. كما من شأن هذا الوجدان المشترك ان يجعل من دولة جنوب السودان سوقاً مهماً لمختلف المنتجات والسلع السودانية بما فيها تلك التي لا يمكن تصديرها إلى أي بلد آخر كالتمور والفتريتة والبصل والحناء والعطور البلدية والتمباك وغيرها.
‌ج. الرعاية الحقيقية لمصالح البلدين التي يتيحها التعاون المشترك في مجال النفط بتوفيره لعائدات الصادر لجنوب السودان، وإيرادات رسوم المعالجة والعبور والنقل للسودان.
‌د. المميزات التفضيلية التي يتفوق بها السودان على دول جوار جنوب السودان الاخري المتمثلة في البنى التحتية التي تربط السودان بجنوب السودان من سكك حديدية ونقل بري ونهري، بما يجعل السودان هو الخيار الأفضل لمرور صادرات وواردات جنوب السودان كدولة مغلقة لا تطل علي مجري مائي دولي.

  1. تأسيسا على المعطيات أعلاه نقول أن مراعاة المصالح المشتركة بين السودان وجنوب السودان تحتم عليهما معاً تطوير وتعزيز التعاون المشترك لمصلحة كليهما. وتبدو الفرصة سانحة والارضية مهيأة لمثل هذا التعاون في أعقاب التغيير الذي جري بالسودان، الأمر الذي يحتم على السودان العمل لبناء وتطوير وتوسيع التعاون الثنائي مع دولة جنوب السودان من خلال برنامج عمل إستراتيجي يهدف إلى توظيف الواقع السياسي الجديد الذي أوجدته ثورة ديسمبر المجيدة لفتح أواصر التواصل وبناء علاقات جديدة مع دولة جنوب السودان بعيداً عن التقديرات التكتيكية السابقة، وذلك وصولاً إلى تحقيق الأهداف التالية:

‌أ. تطوير وتوسيع التعاون في المجال النفطي.
‌ب. إنشاء آليات للتعاون الحدودي من خلال إبرام إتفاقيات توأمة وشراكة بين الولايات الحدودية بهدف جعل الحدود مناطق جذب تجاري واقتصادي واجتماعي وثقافي، أي مناطق تكامل حقيقي بين البلدين.
‌ج. فتح المعابر الحدودية العشرة المتفق عليها بين البلدين لتسهيل حركة مرور المواطنين والبضائع والسلع.
‌د. مراجعة وتفعيل إتفاقية التعاون الموقعة بين البلدين بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا في 27 سبتمبر 2012، والمعلوم أنها عبارة عن إتفاق إطاري يتضمن المبادئ العامة للتعاون، وثمان إتفاقيات تستوعب أهم مجالات التعاون بين البلدين هي:
إتفاقية الترتيبات الأمنية.
إتفاقية النفط والقضايا الاقتصادية ذات الصلة.
إتفاقية التجارة والقضايا المتصلة بها.
إتفاقية الحدود.
إتفاقية فوائد ما بعد الخدمة.
الإتفاقية الإطارية حول أوضاع مواطني البلدين.
إتفاقية التعاون بين البنكين المركزيين.
إتفاقية القضايا الإقتصادية الاخري (التحرك المشترك لإعفاء الديون).
‌ه. مراجعة وتفعيل الإتفاقيات ومذكرات التفاهم الأخرى الموقعة بين عدد من الوزارات والمؤسسات في البلدين كوزارات التعليم العالي والبحث العلمي والصحة والخارجية (التشاور السياسي)، علاوة على مؤسستي الجمارك والمواصفات والمقاييس وغيرهما.
‌و. تبادل فتح أفرع للمصارف التجارية في البلدين تشجيعاً وتسهيلاً لحركة التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة.
‌ز. تشجيع دولة جنوب السودان على استخدام موانئ البحر الأحمر السودانية لصادراتها ووارداتها وتقديم معاملة تفضيلية لها في هذا الشأن.
‌ح. ربط البلدين بالبني الأساسية للنقل عبر إعادة تأهيل وتشغيل خط السكة حديد بين بابنوسة – واو وإعادة تأهيل وتشغيل خط النقل النهري، وذلك تشجيعاً لإنسياب حركة المواطنين والبضائع والسلع بين البلدين.
‌ط. المساهمة في تطوير الموارد البشرية الجنوبسودانية بإتاحة الفرص لها للتدريب والتأهيل في المؤسسات السودانية ذات الصلة، وزيادة وتنويع المنح الدراسية للطلاب الجنوبيين في مؤسسات التعليم العالي السودانية والتعامل معهم في الحقوق والواجبات كنظرائهم الطلاب السودانيين، إلى جانب فتح المؤسسات والكليات العسكرية والشرطية والأمنية للطلاب الجنوبيين.
‌ي. مراجعة وتفعيل إتفاق التشاور السياسي بين وزارتي الخارجية في البلدين الموقع في عام 2013، وصولاً إلى تطوير وتعزيز التعاون في مجالات العلاقات الخارجية وتنسيق المواقف وتبادل الدعم في المحافل الإقليمية والدولية، إلى جانب التعاون والتنسيق بين سفارات البلدين بحيث تعمل سفارات السودان في الدول التي ليس لجنوب السودان سفارات فيها على رعاية مصالح وخدمة مواطني جنوب السودان، والعكس.
‌ك. تسوية أوضاع المواطنين السودانيين الذين ينحدرون من اصول جنوبية، وآثروا البقاء في السودان عقب الانفصال، بمنحهم الجنسية السودانية.
‌ل. لعب دور نشط وفاعل في دعم جهود تطبيق الاتفاقية المنشطة لتسويـــة النزاع في جنـــوب السودان R-ARCSS، التي برغم ان البعض ينظر إليها كتسوية هشة تقوم على أساس تقسيم السلطة بين الفرقاء الجنوبسودانيين، لكنها على اية حال الخيار الوحيد المتاح لتحقيق السلام والاستقرار في جنوب السودان، وتحظي بدعم الإقليم والشركاء الدوليين.
‌م. إعطاء أولوية خاصة لتسوية القضايا العالقة مثل ترسيم الحدود وقضية أبيي وإعفاء الديون، وهذه القضايا وبرغم ما قد يحيط بها من تعقيدات، فمن شأن تطوير وتعزيز التعاون بين البلدين في المجالات كافة بما يحقق مصالحهما معاً ويقوي الثقة بينهما، من شأن ذلك تهيئة الظروف وتمهيد الطريق لتسوية هذه القضايا العالقة.

الحلقة الأخيرة:

ملاحظات ختامية

  1. تناولنا في الحلقات السابقة من هذه المقالات التي جاءت تحت عنوان ” العلاقة مع دولة جنوب السودان: التحديات والفرص وآفاق المستقبل “، تناولنا خصوصية العلاقة بين دولتي السودان من حيث الروابط الإجتماعية والتاريخية والوجدان المشترك لشعبي البلدين، والدور الذي يمكن أن تؤديه هذه الخصوصية في إتجاه بناء علاقات مبرأة من عيوب الماضي، تقوم على الاحترام المتبادل وحسن الجوار وتحقيق المصالح المشتركة لكلا البلدين. كما تتبعنا التطورات التي شهدتها العلاقات بين البلدين منذ إختيار جنوب السودان الإنفصال عن السودان وإقامة دولته المستقلة في يوليو 2011، حيث وقفنا على مسببات استمرار حالة الكراهية والعداء بين البلدين بُعيد الإنفصال، ثم الحرب الأهلية التي إندلعت في جنوب السودان بعد حوالي العامين ونصف من قيام الدولة، والأثر الإيجابي للدور الذي لعبته حكومة دولة الإنقاذ في تحقيق التوافق بين الأطراف الجنوبسودانية المتحاربة على العلاقات بين البلدين. وأيضا تطرقنا لردود الأفعال الجنوبسودانية تجاه سقوط نظام الإنقاذ، وذلك من منظور تأثير عزل الرئيس البشير على العلاقات بين البلدين التي أخذت في الإنفراج والسير إلي الأمام تأسيساً على الدور الذي لعبه في تحقيق السلام في جنوب السودان، ودوره كضامن لهذا السلام مع الرئيس اليوغندي يوري موسفيني. وفي ختام حلقاتنا السابقة تحدثنا عن التحديات التي تواجه علاقتنا مع دولة جنوب السودان في خلال الفترة الإنتقالية، ورؤيتنا لكيفية إدارة هذه العلاقات من خلال منظور إستراتيجي يعظَم ويراعي المصالح المشتركة بين البلدين، ويوظف الواقع السياسي الجديد الذي أفرزته ثورة ديسمبر المجيدة لبناء علاقات جديدة مع دولة جنوب السودان تحقق المصالح المشتركة للبلدين.
  2. وأخيراً نختتم سلسلة مقالاتنا هذي بالملاحظات الختامية التالية:
    أولاً: العلاقة بين دولتي السودان وجنوب السودان تمتاز بالخصوصية العالية، وذلك من حيث الروابط التاريخية والإجتماعية والتقارب الوجداني بين شعبي البلدين، ولذلك فإن ميزان التقدير الصحيح يفرض على أيٍ من البلدين أن يتعامل مع علاقته بالبلد الآخر من خلال منظور إستراتيجي يراعي المصالح المشتركة للبلدين وللشعبين ويعمل على تعظيمها وتعزيزها.
    ثانياً: غياب دولة الإنقاذ عن المشهد يهئ الظروف الملائمة لإعادة ترتيب أوراق العلاقة بصورة إيجابية تجعلها تقوم على مبادئ حسن الجوار والإحترام المتبادل وتوسيع وتقوية التعاون الذي يحقق المنافع المشتركة للطرفين، وبالتالي تمهيد الطريق للتوصل إلى تسويات مرضية للطرفين فيما يخص القضايا العالقة الموروثة من نظام الإنقاذ.
    ثالثاً: عملية إعادة ترتيب أوراق العلاقة تتطلب أن يعمل البلدان على مراجعة وتفعيل اتفاق التعاون الموقع بينهما في سبتمبر 2012 بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، فضلاً عن الإتفاقيات ومذكرات التفاهم الأخرى والعمل على توقيع الاتفاقيات ذات الصلة بتطوير وتعزيز التعاون الأقتصادي بين البلدين، مثل إتفاقيتي منع الإزدواج الضريبي وحماية وتشجيع الاستثمار.
    رابعاً: إعتبار توقيع إتفاقية (الحريات الاربعة) بين البلدين – الدخول، الإقامة، العمل، التملك -، والتي فشل الجانبان في توقيعها في عام 2012 نظراً إلى أن الظروف لم تكن مهيأة لتوقيعها في ذلك الوقت لجملة من الأسباب، اهمها إنعدام الثقة، وبالتالي إنعدام الإرادة. وأما الآن، وفي اعقاب التطورات الإيجابية في العلاقة بفضل ثورة ديسمبر المجيدة، فيمكن النظر بعين الإعتبار في توقيع إتفاقية (الحريات الاربعة)، وستكون بمثابة تقنين لإعادة الوحدة بين البلدين على المستوى الشعبي.
    خامساً: قضية السلام في البلدين تبقي أمراً مهماً بالنسبة لكليهما باعتبارها الاساس الذي يبني عليه الإستقرار والتنمية في البلدين، ثم باعتبار تأثر أياً من البلدين، إيجاباً وسلباً، بما يجري في البلد الآخر. ولذلك فيجب على أيٍ من البلدين مواصلة دوره في لعب دور فاعل في دعم جهود تحقيق وبناء السلام في البلد الثاني.
    أخيراً: يبقي الحكم الرشيد في البلدين، القائم على الديمقراطية والحرية وسيادة حكم القانون والشفافية، هو صمام الامان والضامن الحقيقي لإقامة علاقات تعاون بناءة وصحيحة تعود بالنفع على شعبي وحكومتي البلدين …

((بنيت هذه المقالات على أساس ورقة أعدها الكاتب بذات العنوان في سبتمبر 2019 , إبان فترة عمله سفيراً للسودان بجوبا، وقد تمت إعادة تحريرها بهدف النشر للرأي العام، وذلك لاهمية موضوعها من وجهة نظر الكاتب)) …….

السفير السابق للسودان لدي جمهورية جنوب السودان

التعليقات مغلقة.