السماء ملبدة بالغيوم، في ذلك اليوم الخريفي، والشمس تخرج على استحياء، كان ذلك في يوم الأحد 26 سبتمبر 1982م، والذي يصادف يوم عرفة من العام 1402هـ. في ذلك اليوم الذي شهد أزمة حادة في المواصلات فضلاً عن الخريف الذي طالما أعاق الحركة خاصة لدينا في الجزيرة حيث الأرض الطينية وكثرت التجوال من المواطنين لحضور أيام العيد بين أهليهم وسط تلك المعطيات قرر ذلك الفتى الأبنوسي عصام البشير محمد النويري، أن يحضر مراسيم العيد مع شيخه العالم الورع وشاعر المديح النبوي الشيخ عبد الله محمد يونس بأبي حراز. تحرك عصام يرتدي جلابية ناصعة البياض يحمل في يده عصا بسطونة من الخزران إلى قرية العمارة طه حيث منزل أخيه محمد وجلس معهم فترة من الزمن أحرم بعدها صوب قرية العيكورة حيث الطريق القومي الذي يربط العاصمة الخرطوم بحاضرة الولاية مدينة ودمدني. في تلك الأثناء طال انتظار عصام وهو يرقب عن كثب حركة المرور يمنة ويسرى، ذهب بعدها للجلوس مع عامل الطاحونة بعد انتظار طويل. وهو يتناول أطراف الحديث، لاحت من البعد عربة في اتجاهها إلى ودمدني فتحرك عصام مسرعاً دون النظر إلى الجانب الآخر من الطريق حيث يوجد منعرج في تلك المنطقة، وما هي إلا لحظات حتى هوى عصام على الأرض مصطدماً بعربة لوري كان مسرعاً فأردى ذلك الجسم النحيل قتيلاً ولم يتوقف سائق اللوري بل واصل سيرته إلى مدينة الحصاحيصا حيث قام بتسليم نفسه إلى مركز الشرطة مبيناً عدم وقوفه خوفاً على نفسه من أهالي قرية العيكورة. عند صلاة المغرب تسرب الخبر الحزين للأهل بقرية الفقرا بين مصدق ومكذب بينما ألجمت أصدقاؤه وأقرانه الدهشة والحيرة، وعلى الفور تحرك عبد الرحمن شقيق عصام مع العم عبد الرحيم مستقلين سيارته الفورد (ميني باص) إلى موقع الحادث حيث قاموا بأخذ الجثمان إلى مشرحة الحصاحيصا. في مركز شرطة الحصاحيصا حضر العم البشير محمد النويري، الذي أنزل الله عليه سكينة وجبلاً من الثبات رغم غمامة الحزن التي كست محياه؛ ووجه حديثه مخاطباً مأمور المركز: «يا ولدي نحن ناس مؤمنين وقد رضينا بقسمة الله، والسائق ده لا نعرفه وليس بيننا عداوة ولا خصام، فدحين يا ولدي أحسن الزول ده تتركوه يذهب لكي يحضر العيد مع أولاده». رد عليه المأمور لابد أن نقوم بإجراءات الضمان ورفع تقرير بالحادث وأسباب الوفاة، فرد عليه حاج البشير كان للضمان أنا بضمنه، فيرد عليه المأمور بارك الله فيك لكنك لا تصلح أن تكون ضامن وأنت طرف في القضية. في صباح يوم العيد الحزين جاء أهل سائق اللوري من شرق الجزيرة ولم يتركوا أحداً خلفهم بقريتهم جميعهم جاؤوا ليعزوا حاج البشير واصطحبوا بعض مستلزمات العزاء لتفتح صفحة جديدة من التعارف والتآلف وأواصر التواصل بين أبناء هذا الشعب الكريم.
رحمهم الله و رحم ذلك الزمن الموشح بالتسامح