لا شك في أن الإدارة الأمريكية بذلت جهوداً مقدرة في دعم الثورة السودانية، ومؤسساتها الانتقالية، خاصة الحكومة التي كان يرأسها الدكتور عبدالله حمدوك، وأطاح بها الانقلاب. وقد تمظهر الدعم الأميركي، والأوروبي، والدولي، من ناحية عامة في مساعدة الحكومة الانتقالية في الاندماج، والتطبيع، مع المؤسسات المالية، والاقتصادية الدولية، إضافة إلى الوكالات، والأجسام، التي تدير الفضاء الإقليمي، والدولي. فمنذ انقلاب الجيش في 25 أكتوبر – وحتى لحظة كتابة هذا التعليق – لعب الموقف الأمريكي دورا محدودا في الضغط على البرهان، وشركائه، للحد من العنف، والانتهاكات، ضد المتظاهرين السلميين إلى حد ما، و ذلك على الرغم من أن الإدارة الأمريكية إلى الآن لم تصنف ما جرى في 25 أكتوبر 2021 بالانقلاب.
لكن من الواضح جدا أن الموقف الأمريكي يتسم بالمحدودية، والضعف، وعدم الاتساق، في التعامل مع الوضع الانقلابي في السودان. هذا المأزق ظهر جلياً شاخصاً في جلسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي اليوم الثلاثاء، الأول من فبراير 2022، وذلك حينما سأل السيناتور الديمقراطي المخضرم بوب مننديز مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية مولي فيي حول عدم فرض عقوبات على قادة الانقلاب حتى الساعة؟ ردت عليه مولي فيي قائلة: “نحن ننظر في المسألة، وسنتعاون مع الكونغرس في هذا الشأن.”
أحاول هنا تقديم بعض التفسيرات لأسباب، ومغزى، محدودية الدور الأمريكي الذي يتقاصر أمام طموحات الناشطين السياسيين، والحقوقيين، في السودان و الولايات المتحدة ، وذلك على أمل التعامل الحصيف معها، وذلك في إطار استراتيجية، وخطة، للتعامل مع المؤسسات الامريكية، والغربية، على نحو عام:
١- الطبيعة البراغماتية للمنهج، والمبدأ البنيوي، للمؤسسة الأمريكية الرسمية التي تعلي من – وترجح – اعتبارات المصالح على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، خارج الولايات المتحدة الأمريكية، كان واضحا في السياسة الأمريكية إزاء السودان إبان النظام البائد(الهبوط الناعم)، وحاليا، أي بعد الانقلاب، كما يتضح هذا جليا أيضا في تعامل إدارة أوباما مع ظاهرة الربيع العربي. فالرجل قد قدم اعترافات صادمة في هذا الإطار، وذلك في مذاكرته الموسومة ب”الأرض الموعودة “. التي أنصح بقراءتها !
٢- إدارة بايدن مصممة علي إبقاء قنواتها مع العسكر مفتوحة، فهي ترى في العسكر عنصر قوة، واستقرار، إلى حد ما، وبالتالي ترى أن العقوبات تقضي على قنوات الاتصال، والانخراط، والتأثير the leverage على العسكر. لذلك يحاول الأمريكان الاستفادة من تجربتهم مع النظام البائد في هذا الصدد. جدير بالذكر أن بروتوكولات، وآليات، التعاون المشترك في مجال مكافحة الإرهاب لم تتوقف ابداً منذ عهد النظام البائد، وحتى الآن. لا مناص أن هذا عامل مهم، وحاسم، في تفسير مغزى السياسة الأمريكية الحالية إزاء السودان، إذ نلمس سياسة (العصا والجزرة) في غير ما موضع.
٣- أس السياسة الأمريكية، والغربية، إزاء الانتقال في السودان يقوم على الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وذلك نظراً لطبيعة الأوضاع السياسية، والأمنية، في السودان، وبعض الدول المجاورة، ذلك وفق ما رشح من مواقف عديدة لإدارة بايدن قبل الانقلاب، وبعده.
٤- عدم وحدة، وتماسك، المكونات المدنية، من حيث الرؤية، والأهداف، والبناء التنظيمي، دفع واشنطن إلى عدم استبعاد المكون العسكري، على الرغم من أن المكون العسكري ليس في وحدة مثالية. فهو كذلك تعصف به خلافات القادة، والفصائل، ومراكز القوى ، لكنه أكثر تماسكا مقارنة بالمدنيين. لذلك لا يرى الامريكان، وغيرهم من حلفائهم، في المدنيين في الوقت الحالي شركاء مؤتمنين يمكن الاعتماد عليهم في حكم السودان، أللهم إلا إذا تم ابتدار قنوات حوار بواسطة إدارة بايدن، أو المكون المدني، أو عن طريق وسطاء.
٥- القوى الاقليمية بمن فيهم الاسرائيليون من أصدقاء العسكر يبذلون مجهودا كبيرا في إقناع الامريكيين للتعامل بمرونة مع أصدقائهم. مع ملاحظة أن الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد- وهما المنظمتان الاقليميتان المهمتان، تتبنيان مقاربة ليست بعيدة عن العسكر، جدير بالذكر أن دورهما، وصوتهما، مسموع دوليا إزاء الأوضاع في السودان.
٦- عدم قدرة الإدارة الأمريكية في التعامل مع عدة أزمات دولية في وقت واحد: الأزمة مع روسيا حول أوكرانيا ، والملف النووي الإيراني،وأزمة وباء كورونا، والملف الأكثر أهمية – الصراع مع الصين، هذا بالإضافة إلى صراعات القرن الأفريقي (الصومال، إثيوبيا) وإقليم الساحل. من المهم أن نذكر هنا أن منهج ومبدأ بايدن يقوم على تجميد، وإدارة، الصراعات لا التدخل في حلها.
٧- نلاحظ افتقار الإدارة الامريكية لسياسة، واستراتيجية موحدة، ومتسقة، إزاء السودان، فهنالك مقاربات متعددة بين الجسمين التشريعيين من جانب، والذراع التنفيذي (الخارجية، البنتاغون، المجتمع الاستخباراتي، ومجلس الأمن القومى ) حتى هذه الأجسام ليست متفقة، أو لديها سياسة موحدة.
أعلاه بعض التفسير لأسباب، ومغزى، محدودية سقف الدور الأمريكي في السودان، سوى أن مفتاح تغييره لصالح التعاطي الإيجابي لمصلحة السودان، وثورته، يشترط السعي هنا وهناك في تغيير العوامل، والمعادلات، آنفة الذكر، وذلك علي الرغم من إيماني بمبدأ، وحقيقة أن التغيير الثوري نحو ترسيخ الديمقراطية – ومؤسساتها – شأن سوداني في المقام الأول.