نقلا عن صحيفة الاندبندت النسخة العربية
في محاولة لاحتواء آثار التفاقم المستمر للضائقة المعيشية والاقتصادية في السودان، أعلنت حكومة تصريف الأعمال زيادة الحد الأدنى للأجور من 3000 جنيه سوداني، (ما يعادل 6.5 دولار)، إلى 12000 جنيه (25 دولاراً) بسعر السوق الموازي، بنسبة أربعة أضعاف عن السابق.
غير أن الارتفاع الذي حدث في معظم أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية والخدمات، بسبب الزيادة الأخيرة في تعريفة الكهرباء وتحرير سعر دقيق الخبز، جعل السوق تلتهم الزيادات الجديدة، حتى قبل أن تصل إلى جيوب الموظفين.
ومن المنتظر أن يبدأ صرف تلك الزيادات اعتباراً من فبراير (شباط)، بسبب تأخر إجازة الموازنة العامة للدولة، على أن تجري معالجة أجر الشهر السابق كفروقات، تلتزم وزارة المالية سدادها للعاملين في القطاع العام.
سخط وخيبة أمل
وقوبلت الزيادات بانتقادات حادة من متخصصين ومراقبين، فضلاً عن سخط وخيبة أمل كبيرين من قطاعات العاملين في الدولة، الذين وصفوها بأنها زيادة غاية في التواضع في مواجهة انفلات الأسعار، الذي تشهده الأسواق والزيادات الجنونية في كل شيء، نتيجة ترافقها مع ارتفاع تكلفة الخدمات العامة والطفرة الكبيرة في أسعار كل المنتجات، لتأثرها بالزيادات الكبيرة التي جرت في تعريفة الكهرباء، وفي وقت بدأ فيه سعر صرف الجنيه السوداني يسجل تراجعاً ملحوظاً أمام الدولار في السوق الموازية.
وبحسب مصادر في المجلس الأعلى للأجور، قدرت تكلفة المعيشة في حدها الأدنى للأسرة المتوسطة التي تضم 5 أشخاص هذا العام، بمبلغ 105000 جنيه سوداني في الشهر الواحد، (ما يعادل 221 دولاراً) بالسعر الموازي، (236 دولاراً) بالسعر الرسمي، مما يكشف البون الواسع بين الحد الأدنى الجديد والتكلفة الحقيقية، فضلاً عن أن الزيادة الجديدة التي وافقت عليها وزارة المالية لا تشمل العلاوات المرتبطة بجداول المرتبات، لكنها تقتصر فقط على الراتب الأساسي، ما يضعف أيضاً من قيمتها وأثرها بالنسبة إلى العاملين في الدولة.
وفي السياق، أعرب الموظف الحكومي عابدين محمد مبارك، عن خيبة أمله في الزيادة المعلنة التي لا تكاد تغطي مصاريف عشرة أيام له وأسرته الصغيرة المكونة من 5 أفراد، مشيراً إلى أن الموظفين كانوا يتوقعون زيادات واقعية، تغطي قدراً معقولاً من التكلفة، وتضع في اعتبارها حجم الزيادات عبر دراسات وأسس حقيقية.
ووصف مبارك، الزيادة بأنها غير مجزية على الإطلاق، ولا تغطي ربع تكلفة المعيشة، كما لم تواكب الارتفاع المتواصل في أسعار السلع الضرورية، ما قد يضطر العديد من الموظفين إلى البحث عن عمل إضافي بعد الدوام الحكومي الرسمي لزيادة دخله وسد الفجوة، حتى يتمكن من الوفاء بمتطلبات أسرته.
وسخر الموظف الحكومي من الوعود الحكومية التي كانت تؤكد تطبيق زيادات حقيقية في الأجور لا تبتلعها الأسواق، وتسهم فعلياً في رفع العبء عن العاملين في الدولة، بما يؤدي إلى استقرار العمل والأداء في دواوين الدولة ومؤسساتها. لكن، خابت كل التوقعات، وتبخرت الآمال في ذلك. مبيناً أنه يفكر جدياً في ترك الوظيفة، والعمل سائق مركبة مواصلات، لأن دخلها أفضل بأضعاف مما تدره عليه الوظيفة.
الفجوة والمخاطر
بدوره أوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للأجور، عماد داؤود، أن المجلس رفع توصياته ومقترحاته بشأن ما يجب أن يكون عليه وضع الحد الأدنى للأجور لعام 2022، وفق المعطيات الاقتصادية وبناء على مخرجات الدراسة التي قام بها، إذ تنحصر مهمة المجلس في رفع مقترحاته بالزيادة المطلوبة، لكن تظل وزارة المالية هي صاحبة القرار الأخير في قبولها أو رفضها، وفق ما هو متاح لها من موارد لتغطيتها.
وأوضح داؤود، لـ “اندبندنت عربية”، أن المجلس درج على إعداد دراسة سنوية للحد الأدنى للأجور، بمشاركة كل الجهات المختصة، بما فيها ممثل وزارة المالية في المجلس، فضلاً عن الجهاز المركزي للإحصاء وممثلي القطاع الخاص، والعمال، ووزارة العمل والأمانة العامة لمجلس الوزراء، وبعض المتخصصين من الأكاديميين وذوي الخبرات.
على المنحى ذاته، أوضح أمير المأمون، أستاذ علم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، أن الفجوة المتسعة بين الراتب الشهري للموظفين وتكلفة المعيشة لها أثر كبير على مستقبل وكفاءة الخدمة العامة وأداء وسلوك الموظفين، إذ تتسبب في إضعاف الالتزام والأخلاقيات وتدني مستويات الأداء، كما تُحدث خللاً في الانضباط المهني (الأداء) والوظيفي (الالتزام بساعات العمل)، وإلى جانب مظاهر التسيب، فهي تزيد من معدلات الرشوة والمحسوبية.
وأوضح المأمون، أن استمرار ذلك الوضع من شأنه أن يؤدي إلى خلل بنيوي في مؤسسات الدولة والخدمة المدنية قد يصعب تداركه، ولا يمكن معالجته سواء بالمحاسبة أو التدريب، لأنه يرتبط بعائد الوظيفة وقيمتها في مقابلة احتياجات شاغلها، مما يقود إلى ظهور العمل من الباطن (الأعمال الموازية)، التي تعرف في علم الإدارة بـ “ضوء القمر”، أي الحاجة إلى إضاءة إضافية مع ضوء الشمس الطبيعي.
غير مرضية
على الصعيد ذاته، كشف أستاذ الاقتصاد المحلل الاقتصادي محمد الناير، أنه على الرغم من أن القرار الحكومي قضى بمضاعفة الحد الأدنى للأجور أربع مرات، لكنه في كل الأحوال لا يفي بالحد الأدنى من متطلبات المعيشة، ولا يكاد يكفي احتياجات أسرة صغيرة أسبوعاً واحداً فقط، فضلاً عن تفاوته من درجة وظيفية إلى أخرى.
ويرى الناير، أن المعالجات التي اتخذت في شأن أجور القطاع العام بصفة عامة، لم تكن مرضية، ولا تتناسب مع تكاليف المعيشة، بخاصة بعد أن انهمكت الدولة في تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي بنسبة تفوق 80 في المئة، إذ شهد عام 2021 تحرير أسعار المحروقات والدولار الجمركي وكذلك الكهرباء ودقيق الخبز، بينما ينتظر الناس زيادات جديدة خلال الفترة القليلة المقبلة.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن زيادات الكهرباء الخرافية لوحدها كفيلة بابتلاع كل راتب الموظف بالنظر إلى أن تكلفة 1000 كيلووات 22000 جنيه ما يعادل (46 دولاراً) في السوق الموازية، وهو ما يقارب ضعفي الحد الأدنى الجديد، هذا فضلاً عن تأثيرها على كل قطاعات الإنتاج الزراعي (الحيواني والنباتي) والصناعي (الاستخراجي والتحويلي)، إلى جانب القطاع الخدمي بكل مكوناته، ما يعني ارتفاعاً كبيراً في أسعار المنتجات، تماماً مثلما كان أثر رفع الدعم عن المحروقات كقوة محركة لكل الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية، ما يؤكد أن كل تلك القرارات لم تكن مدروسة بدقة، بما فيها زيادة الحد الأدنى للأجور الأخير.
غياب الحماية
يضيف الناير، “هذه الزيادات فضلاً عن كونها غير متوافقة مع متطلبات الحياة، فإن عدد العاملين في القطاع العام من المواطنين لا يتجاوز (10 إلى 15) في المئة من الشعب السوداني، وهناك ما بين (80 إلى 90) في المئة من الشرائح الأخرى، التي لا علاقة لها بتعديلات الأجور، إلى جانب العاملين في القطاع الخاص”، مشيراً إلى أن توقف المنح والقروض حتى الآن، جعل الموازنة الراهنة للدولة تعتمد كلياً على الموارد الذاتية الشحيحة حالياً، على الرغم من أن البلاد تمتلك موارد مهولة وضخمة، لكنها غير مستغلة لمصلحة الاقتصاد بصورة أساسية.
وانتقد المحلل الاقتصادي، غياب أي آليات فعالة للحماية الاجتماعية، مما يؤزم الموقف أكثر مما هو عليه بالنسبة إلى شرائح المجتمع الضعيفة، بخاصة بعد توقف برنامج “ثمرات” الممول من البنك الدولي، بسبب تداعيات الأزمة السياسية، الذي كان يهدف بالأساس إلى امتصاص الآثار السالبة لسياسات رفع الدعم الحكومي، ولم يعد معلوماً متى سيتواصل، على الرغم من ضآلة المبلغ الذي يقدمه (5 دولارات) للفرد في الشهر، لكن الحاجة دفعت الناس ليتهافتوا، تحت الضغوط الاقتصادية، على عمليات التسجيل.
يضيف الناير، “مع كل الإخفاقات التي لازمت البرنامج، فشلت الحكومة أيضاً في إيصال ذلك المبلغ الزهيد إلى الفئات المستحقة، إذ لم ينفذ منه سوى بين (5 إلى 10) في المئة، بسبب سوء خدمات التوزيع، لذلك أعتقد أن هذا البرنامج لم يحقق أي نجاح، ولا يُرجى منه، حتى لو كان مستمراً”. مشدداً على ضرورة التفات الحكومة بقدر من الجدية إلى مشكلات المواطن، وجعله محور اهتمامها، بعد أن ظل دائماً يدفع ثمن سياساتها، متحملاً كل أعبائها من دون أن تمنحه ما يجابه به تلك الأعباء.
وفيما تؤكد السلطات الحكومية، أن معدل التضخم في السودان شهد تراجعاً من 339.58 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى 318,21 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، لكنه لا يزال عند مستوى مرتفع، كشف تقرير للجنة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، (أسكوا)، صدر في نهاية الأسبوع الماضي، أن الجنيه السوداني فقد 87 في المئة من قيمته خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بينما انخفض الناتج المحلي 20 في المئة.
وكانت الحكومة قد رفعت في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، الحد الأدنى للأجور من 425 جنيهاً (أقل من دولار) إلى 3000 جنيه (6.5 دولار) في السوق الموازية، بنسبة فاقت 500 في المئة، لمواجهة الزيادات في أسعار السلع وغلاء المعيشة وتصاعد معدلات التضخم.
وقالت وزارة المالية هذا العام، إنها خصصت في الموازنة الجديدة 2022، أكثر من 760 مليون جنيه (الدولار يوازي 446 جنيهاً بالسعر الرسمي، و475 في السوق الموازية) لسداد الأجور والمرتبات بنسبة تفوق 145 في المئة عن موازنة العام السابق.