تطورات اليومين الماضيين حول الأزمة الروسية الأوكرانية لم تقدِّم جديداً وجعلت الأزمة تراوح مكانها، ولمْ تحدّ من تبادل التصعيد، وبالتالي لمْ يحدُث أي اختراق بالاتصال الهاتفي الذي جمع أمس الأول الثلاثاء 1 فبراير الجاري وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، استمع فيه الأول لموقف الثاني من الردِّ المكتوب الذي استلمه فردّد أمامه التصريحات التي أطلقها أركان وزارته والناطق الرسمي باسم الكرملين، بأنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي اختارا “تجاهل” مخاوف روسيا الأمنية بدليل رفضهما المطالب الروسية في الردِّ عليها المكتوب. هذا وقد حصلت كييف على دعم لندن بزيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يوم الثلاثاء الماضي “ضمن الجهود الدبلوماسية لردع الغزو الروسي المُحْتمل”، وحصلت أيضاً على مُساندة ماتيوش مورافيتيسكي رئيس وزراء بولندا الذي زارها في نفس اليوم، وحلّ ضيفاً عليها أمس الأربعاء مارك روته رئيس وزراء هولندا مُعضِّداً موقفها وداعياً لمعاقبة روسيا.
وبالمقابِل استقبلت موسكو الرئيس بوتين رئيس وزراء المجر فيكتور اوربان، عِلماً بأنّ المجر لا تشاطر الناتو مواقفه والمتشددين الأوربيين تجاه روسيا، وكان وزير الدفاع المجري، تيبور بينكو، أكد نهاية الشهر الماضي أن بودابست لا ترى من المُناسب نشر قوات إضافية تابعة لحلف شمال الأطلسي على أراضيها في ظل التوتر الراهن حول أوكرانيا. ويُذْكر أنّ أحزاب المعارضة ترفض موقف الحكومة المجرية وقد أصدرت بياناً مشتركاً نهاية الأسبوع الماضي دعت فيه أوربان إلى إلغاء الزيارة واعتبرتها “تتعارض مع مصالحنا الوطنية”، وترى المعارضة في بودابست أن أوربان يشجّع بلقاء الرئيس الروسي على “تصعيد الوضع الحالي المتوتر بشكل إضافي”. دعونا، إذن، نعود للمساعي التي تدفع الحوار والحل السلمي للازمة، واستعراض نتائج الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الفرنسي ايمانويل ماكرون ونظيره الروسي فلاديمير بوتين والذي جرى بمبادرة من الأول وقد تحدّثا يوم الجمعة الماضي لمدة ساعة ونصف حول الوضع الصحي جراء جائحة كوفيد 19 والأزمة الأوكرانية، و”اختلفا” لكنهما اتّفقا على ضرورة إزالة الترسُّبات التي دفعت بالتصعيد، وأكّدا العمل بالحوار والدبلوماسية لوقفه.
نبرة تفاؤل في خُلاصة الحديث الهاتفي: وحول ما دار بينهما من حديث، قال قصر الإليزيه إن “الرئيس الروسي كرّر، بشكل غير مفاجئ، الأسباب التي أدت إلى الوضع الحالي، وفي رأيه أن الناتو يقترب من روسيا”. ومن جانبه، حثّ ماكرون روسيا على “احترام سيادة الدول” من أجل “الثقة” و”أمن” أوروبا. وبحسب الرئاسة الفرنسية “كان هناك خلاف، لكن الرئيسين اتفقا على استمرار الحوار وعلى مشاركة الأوروبيين فيه”. ويضيف قصر الإليزيه، الذي يعترِف بأنّه دخل في حوارٍ “صعبٍ” مع موسكو، إن “الرئيسين (الفرنسي والروسي) اتّفقا على أنّ هناك مساراً للتهدئة وحواراً منظماً”. ومع ذلك، إنّ التحركات العسكرية الكبرى التي يُفهم منها أنّ روسيا تستعِد لغزو أوكرانيا على الأرجح من دونباس في شرق أوكرانيا، تثير القلق ودفعت إيمانويل ماكرون إلى سؤال فلاديمير بوتين عن نواياه. وأوضحت الرئاسة الفرنسية أنّ “الرئيس الروسي نفى النوايا الهجومية وأبدى رغبته في المُضي قُدماً في تنفيذ اتفاقات مينسك لتحقيق السلام”، مؤكدة أنّ الهدف هو التركيز على “خَفْضِ التصعيد”. هذا واشتكى الرئيس بوتين لنظيره ماكرون تجاهل الغرب لمطالبه الأمنية الرئيسية، الأمر الذي يُفهم منه عدم المساهمة في وقف تصعيد الصراع الروسي الغربي، بحسب وكالة فرانس برس. وقال الكرملين في بيان حول محادثات رئيسي الدولتين “ردّ الولايات المتحدة والناتو لمْ يأخُذْ في الحسبان مخاوف روسيا الأساسية”، وأضافت الرئاسة الروسية “تم تجاهل القضية الرئيسية، وهي كيف تعتزم الولايات المتحدة وحلفاؤها (…) تطبيق مبدأ أنه لا ينبغي لأحد أن يعزز أمنه على حساب الدول الأخرى”، وبحسب الكرملين، “ستحدِّد روسيا ردّ فعلها بعد أن تدرس بالتفصيل الردّ المكتوب الذي استلمته”. وبعد الحديث مع بوتين، هاتف ماكرون نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وجدّد “تضامُن فرنسا الكامل مع أوكرانيا” و”تصميمها على الدفاع عن وحدة أراضي وسيادة هذا البلد في سياق شديد التقلُّب”. واتفق ماكرون وزيلينسكي على “مواصلة الجهود للتهدئة والدخول في حوار بصيغة نورماندي، برعاية فرنسا وألمانيا، بهدف تنفيذ اتفاقات مينسك”، بحسب الرئاسة الفرنسية. وصرّح الزعيم الأوكراني زيلينسكي أن “الغرب يشعر بأنّ حرباً قد تندلع في أوكرانيا غداً، وهذا ليس صحيحاً”. وأضاف “إنّ الجهود الدبلوماسية ستخفف التوتر”. فهل أدرك فولوديمير زيلينسكي السياسة التي يرى كثير من المراقبين أنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يحاولان من خلالها تفاقُم الأزمة؟ وعودة للمباحثات الهاتفية التي جرت بمبادرة من ماكرون فإنّ الشيء الأكثر إثارة للدهشة هو أنّ بوتين في نقاشه مع ماكرون، حاول استبعاد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. كما يُلاحظ أنّ البيان الصادر عن باريس أبْرز عبارة “بوتين لمْ يبدْ أي تهديد، وأوضح أنّه لا يريد الخِلاف، واتفق ماكرون وبوتين على مواصلة الحوار وإشراك أوروبا فيه”، كما يلاحظ أيضأً ما جاء في بيان الكرملين أنّ “الولايات المتحدة والناتو لم ينتبها أبداً لمخاوف روسيا”، فهل تُقْرأ كإشارة بأنّ فرنسا تَفْعَل؟
علاقة مع الأوروبيين، وليس مع أوروبا: الشاهد أنّ الرئيس الفرنسي ماكرون بدأ حواراً مع روسيا أبْعدَ منه الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، مُنْتَقِماً من استثناء فرنسا من اتفاقية “اوكوس” الأمنية التي وقعتها الولايات المتحدة وإنجلترا وأستراليا، وفقدت بموجبها فرنسا بناء 12 غواصة لأستراليا. في الواقع، كانت تلك رغبة الزعيم الروسي بوتين الذي لا يريد السير في الحوار مع أوروبا أو الولايات المتحدة، ولكن مع الأوروبيين الذين وضعوا مسافة بينهم وبين الولايات المتحدة، وقطعاً فرنسا رأس الرمح في هذا التوجه. ولا يُسْتبْعد بعد هذه المرحلة، أنْ يخطِّط بوتين لحل الأزمة مع أوكرانيا، من خلال دبلوماسية تركز على أوروبا، وخاصة تركيا، بدلاً من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ومن المتوقع أنْ يتِمّ تنفيذ تحرّك دبلوماسي مُماثِل لعمليتي سوتشي وأستانا، حيث لم تُدعْ الولايات المتحدة لطرح موقفها حول سوريا. وفي الانتظار أنْ يتّضِح الوضع أكثر بعد لقاء بوتين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته القريبة القادمة لانقرة استجابة لدعوة نظيره اردوغان ليفسح له المجال لبذل جهوده في حلِّ الأزمة مع أوكرانيا، علما بأنّ الرئيس التركي توجه أمس الأربعاء إلى أوكرانيا لجسِّ نَبْضِ الطرف الذي ساعده بمعدات عسكرية وطائرات مسيّرة حول الوساطة التي يقوم بها بين موسكو وكييف. وعليه، لا شكّ أنّ كل ذلك يدُلّ على أنّ المشهد الدولي سيدْخُل فترة يصل فيها تأثير الولايات المتحدة على الأزمة الأوكرانية، وبمعنى أوسع، على نظام الأمن الأوروبي الأطلسي، إلى أدنى مستوياته.
إعادة رسم أوروبا وإنهاء القطبية الأحادية: يرى كثير من المراقبين أنّ روسيا في الوقت الحالي، تبدو أقوى من الولايات المتحدة، فبالإضافة إلى الميزة المُتعلِّقة بالطاقة مصادِراً وخطوط إمدادات، فإنّها تتلقى أيضاً دعماً من الصين، وطورت علاقات جيدة مع تركيا العضو في الناتو، وحقّقت سِلسِلة من المصالح المُشْتركة مع دول مثل ألمانيا وفرنسا لا تستطيع الولايات المتحدة تقويضها. فما هو الهدف الذي يسعى بوتين لتحقيقه وبلاده تعزِّز موقِفها وتعتبر أوكرانيا “منطقة تجريبية”؟ لا شكّ أنّ الهدف الحقيقي لبوتين هو تدمير النظام أحادي القطب الذي بنته الولايات المتحدة في أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة، ويعمل بوتين بالتالي على إعادة رسم أوروبا، وأوكرانيا هي “المنطقة التجريبية الأكثر حساسية لهذه الاستراتيجية”. بيد أنّ النظام الجديد لا يعني يالطا جديدة، على غرار النظام الذي أعقب مؤتمر عام 1945، عندما تم تقسيم النفوذ في أوروبا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. قطْعاً لا يختلف المراقبون على أنّه بعد انتهاء الحرب الباردة، بدأ العمل بنظام “أوروبا الموحدة والمُسْتقِلة”، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة فقط. وعانت روسيا كثيراً من انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد بقي 25 مليون روسي في بلدان مختلفة بعد تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية، يعيش 12 مليون منهم حالياً في أوكرانيا، ولذلك يريد بوتين تغيير النظام الأوروبي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة وإزالة المظالِم التي لحِقت بروسيا. ويدعو بوتين لنظام أمني أوروبي أطلسي جديد لا تمْلِك فيه الولايات المتحدة الحِصّة الأكبر. ويريد أنْ يبني هذا النظام جنباً إلى جنب مع لاعبين في أوروبا، ومنهم تركيا، وأيضاً مع الصين. ولذلك، ومن هذا المنظور، يرى الاستراتيجيّون العملية التي بدأت مع الأزمة الأوكرانية باعتبارها مشروع الرسم الثالث لأوروبا، فدعونا ننْتَظِر لنرى كيف ستنتهي؟
مخاوف الغرب في الأزمة الروسية الأوكرانية: مع وصول التوترات حول أوكرانيا إلى ذروتها، يحذِّر الخبراء من “خسائر فادحة وآلاف اللاجئين ودولة مُمزّقة وقارة غير مُسْتَقِرة”، كما كتبت المحللة السياسية فيوريكا مارين في صحيفة (اديفارول) الرومانية واسعة الانتشار، وأضافت أنّ الرئيس الروسي في المواجهة مع الغرب وضد أوكرانيا، أوْصَل لعبة التخمين إلى مستوى جديد تماماً. واعتماداً على مَن تسأل، فإن الآراء تتمايز بين أنّ بوتين على وشك أنْ يدفع أوروبا لأسوأ صِراع عسكري منذ الحرب العالمية الثانية أو أنّه ينظِّم خِدْعة مُصمَّمة ليظهر أمام الغرب على أنّه خطير كما كان دائماً. فإنْ كان الاهتمام هو ما يبحث عنه، فقد امتلكه وحصل عليه، ولكن ليس فقط مستقبل أوكرانيا الحُرّة والديمقراطية على المحك، وإنّما كما كتب موقع بوليتيكو Politico.eu “الهيكل الأمني بأكمله لأوروبا ما بعد الحرب الباردة. فما هي التوقعات أو قراءات المشهد؟ بعد أنْ جمع ونشر أكثر من 100 ألف جندي وعتاد عسكري على طول الحدود مع أوكرانيا في نقاط استراتيجية من بيلاروسيا إلى شبه جزيرة القرم، جعل بوتين روسيا في وضْعٍ يُمَكِّنها من مُهاجمة واحتلال جارتها الجنوبية في غضون أسابيع. لمْ ولنْ تستطع القوات المسلحة الأوكرانية، مهما كانت عازِمة، منافسة الجيش الروسي المُجهز تجهيزاً جيداً والذي تم اختباره في معارك سابقة. والسؤال هو ليس ما إذا كان بإمكان أوكرانيا صدّ الهجوم، بلْ إلى أي مدى يُمْكِن أنْ تبْقي روسيا بعيدة عنها، وثُمّ ماذا بعد ذلك؟ يقول ماكسيميليان تيرهالي، المحلل الألماني في شئون الحرب والأستاذ الزائر في كلية لندن للاقتصاد، “قد لا يواجه الروس صُعوبة كبيرة في إعلانِ النصرِ في غضون أسابيع قليلة، لكن بعد ذلك ستبدأ الحرب الحقيقية”. وعلى الرغم من هذه المخاطِر، فإن مجموعة من المطالِب المُتطرِّفة التي أرسلها مفاوضو الكرملين إلى المسؤولين الأمريكيين تشير إلى أنّ بوتين لا يبحث عن حل دبلوماسي. فمن الواضح أنّ شروط موسكو للانسحاب – فرض حظر على المزيد من توسيع حلف الناتو، ووقف التعاون بين الحلف ودول خارجه، ووقف نشاط الناتو على أراضي أعضائه في وسط وشرق أوروبا – كلها بالطبع شروطاً غير مقبولة. وعليه فان إحدى النظريات لتفسير قائمة أمنياته غير الواقعية، هي أنّ الزعيم الروسي يحاول ببساطة ألّا يكون هو الشخص الوحيد المسؤول عمّا يلي من أحداث وتطورات. ويقول مايكل كوفمان، الخبير العسكري في الشئون الروسية ومدير المناهج الروسية في مؤسسة فكرية مقرّها واشنطن، “إنّ الشيء الوحيد غير المُدْرَج في القائمةِ هو طلب إعادة الولايات المتحدة منطقة ألاسكا”، ويضيف “أعتقد أنّ بوتين يريد رفض الولايات المتحدة لتبرير استخدام القوة، وللتاريخ أيضاً”. فما هي أهداف بوتين الحقيقية؟
تغيير عجلة التاريخ – قدر الإمكان -: لا يخفى على أحد أنّ فلاديمير بوتين مُنْزعج للغاية من انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو الحدث الذي وصفه ذات مرّة بأنّه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن”. ويعتقد العديد من المراقبين أنّ هدفه هو تغيير عجلة التاريخ – قدر الإمكان – بإعادة أوكرانيا إلى روسيا، وهو الهدف الذي حققه بالفعل مع بيلاروسيا. مثل هذا المسار من شأنه أنْ يقْضي على إمكانية انْضِمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، ويعْتبِر بوتين الانْضِمام تهديداً لسُلطته، وسوف يستعيد منطقة عازلة كبيرة بين روسيا نفسها والتحالف الغربي. ويُذكر أنّ فلاديمير بوتين نشر مقالاً في يوليو الماضي أشار فيه إلى الروس والأوكرانيين على أنّهم “شعب واحد”، وكتب “أنا واثق من أنّ السيادة الحقيقية لأوكرانيا مُمْكِنة فقط بالشراكة مع روسيا”. وبالنسبة لبوتين، المولع بالتاريخ ويحِبّ الرمزيّة، سيكون عام 2022 الذي يصادف الذكرى المئوية لتأسيس الاتحاد السوفيتي، الوقت المِثالي لاستعادة أوكرانيا. وعلى الرغم من عدم تخلي واشنطن ولا أوروبا عن الأمل في التوصل إلى حل دبلوماسي، إلّا أنّه من الصعب رؤية ما يمكن أنْ يقدِّمه الغرب للزعيم الروسي بدلاً من السيطرة على أوكرانيا. ومن الجدير بالذِكر أيضاً أنّ بوتين لم يتردد في استخدام القوة في الماضي القريب، حيث وجد الغرب في عدم استعداد في كل مرّة، من غزواته لجورجيا وأوكرانيا إلى الانتشار العسكري الروسي في سوريا. وبالإضافة إلى ذلك، إذا انسحب بوتين دون إطلاق نار بعد حشد الآلاف من القوات عبر الحدود الغربية لروسيا بتكلفة كبيرة، فسيبدو كزعيم لم يعُدْ نباحه يخيف أحداً، ويمكن أنْ تبدأ النُخْبة التي حوله التشكيك في صحّته العقلية. لهذا السبب يعتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن والعديد من حلفاء الناتو أنّ نوعاً مُعيّناً من العمل المُسلح أمر لا مفرّ منه، ويبقى السؤال ما هي سيناريوهات الهجوم وكيف ستبدو؟ تتراوح السيناريوهات من إنشاء “جسر برّي” إلى شبه جزيرة القرم وصولاً إلى احتلال أوكرانيا بأكملها. ويعْتبِر الكثيرون الخيار الأول غير مُناسب لبوتين لتحقيق هدفه المُتَمَثِّل في السيطرة على مُسْتَقْبَل أوكرانيا السياسي، والأخير مُعَقّد للغاية على المدى الطويل. ولتقييم التفكير الاستراتيجي للكرملين بشكلٍ أفضل، تحدّث موقع (بوليتيكو) مع محللين عسكريين ومسؤولين دفاعيين على جانبي المحيط الأطلسي. وعلى الرغم من أنّه يبدو لكل شخص رأًياً مُخْتلِفاً، هناك إجماع على أنّ السيناريو المِثالي لبوتين سيكون أوكرانيا المُنْقَسِمَة التي ستتخلّى سريعاً عن السيطرة على المنطقة الواقعة شرق نهر دنيبر، الذي يجري تقريباً من وسط أوكرانيا والحدود مع بيلاروسيا إلى البحر الأسود. وكمقدمة للغزو، ستخلِق موسكو نوعاً من التبرير للهجوم، مثل حماية أمن المواطنين الروس في منطقة دونباس. ويمكن أنْ يبدأ القِتال قبل أنْ يتحول إلى ما تحدّثت عنه الولايات المتحدة سراً مع حلفائها، أي “الحرب الشاملة”. ومع وجود الآلاف من القوات في بيلاروسيا، على بعد أقل من 200 كيلومتر شمال غرب العاصمة الأوكرانية كييف، وعلى طول حدود روسيا مع جارتها وشبه جزيرة القرم، يمكن لروسيا شن هجوم مُتزامِن في عدة اتجاهات بإرسال قوات آلية عبر المنطقة الريفية المُجمّدة. والهدف الرئيسي سيكون كييف، التي يمكن أنْ يهاجمها الروس من كلا جانبي نهر دنيبر ومن الجو. وستَتْبع القوات الروسية نهجاً مشابهاً في المراكز الحضرية الرئيسية الأخرى، مثل خاركوف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا في الشمال الشرقي، على بعد أقل من 50 كيلومتراً من الحدود. وبالإضافة إلى القوات النِظامية، يَضُمّ الجيش الروسي أيضاً وحدات من الحرس الوطني الروسي، تتمثِّل مهمتها في المُساعدة لإدارة الاحتلال بضمان النظام في المدن ومُساعدة أجهزة المخابرات الروسية في التعامل مع المُنْشقين والمُقاومة، وسيتِم إرسال المعتقلين إلى معسكرات، إمّا في أوكرانيا أو في روسيا. والسؤال الكبير هو ما مدى المقاومة التي سيواجهها الروس؟ يبدو أنّ موسكو تراهِن على الأوكرانيين في الشرق، حيث اللغة الروسية هي اللغة المُهيمِنة، لقبول الاتحاد مع الأوكرانيين في الشمال، وهو افتراض يعتبره بعض المراقبين خطأً كبيراً. ويقول جوستاف جريسيل، محلل الشئون الروسية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، الذي يعتقد أن الأوكرانيين سيخوضون معركة شرِسة، “يسْتَخِف الروس بقرار أوكرانيا”، وهذا من شأنه أن يتْرُك للروس خيارين: الانسحاب وقبول صفقة دبلوماسية أو إجبار أنفسهم لخوض حرب غير معلومة العواقب. وأضاف جريسيل “الغريزة تُخْبِرُني بأنّ بوتين سيفْرِض الخيار الثاني لأنّه الطريقة الوحيدة لتحقيق هدفه السياسي المُتمثِّل في السيطرة على أوكرانيا بإخضاع البلاد واحتلالها”، وهذا يعني خسائر فادحة لكلا الجانبين، بما في ذلك العديد من المدنيين الأوكرانيين. وحتّى لو تمكّنت روسيا من غزو كييف بسرعة والسيطرة على النصف الشرقي من البلاد، فإن خطر تمرُّد طويل الأمد، بدعم من الغرب، سيظلّ قائماً. لكن من غير المؤكد على الإطلاق أنّ الأوكرانيين العاديين مستعدون للسير في هذا الطريق، فأولاً وقبل كل شيء، إنّ الدولة المُسطّحة ليست مناسبة لتكتيكات حرب العصابات، ويقول كوفمان “ربما توصّل الروس إلى اسْتِنْتاج مفاده أنّ الاحتلال يُمْكِن السيطرة عليه”. في الواقع، لروسيا تاريخ حافل في هزائم التمرُّد، لا سيما في الشيشان. وإذا نظرْت إلى ما حدث لغروزني، عاصمة الشيشان التي عملياً دمرتها روسيا، فمن شأن ذلك أن يجعل أي شخص يتوقّف عن قتال القوات الروسية. أمّا إذا كان الروس سيقبلون مثل هذه المُعاملة للأوكرانيين فهو سؤال آخر. فمع وجود حكومة عميلة صديقة لموسكو في السُلطة في كييف والسيطرة على شرق أوكرانيا، فإن النصف الغربي من البلاد الذي يغلب عليه سكان يتحدثون الأوكرانية سيصبح نوعاً من الدولة الرديئة، عازلة بين المجالين الروسي وحلف شمال الأطلسي. وإذا حدث ذلك، فسيقوم بوتين بإزالة مخاوف نظام حكمه الذي يعتبر “أوكرانيا الحُرّة” من مُهدِّداته، لكن التكاليف ستكون ضخمة لجميع الأطراف.
أوروبا الغربية تخشى تدفُّق اللاجئين: من المتوقع أنْ يؤدي الهجوم الروسي واحتلال الشرق إلى موجة من اللاجئين إلى غرب أوكرانيا وأوروبا عموماً، عِلماً بأنّه يُسمح حالياً للأوكرانيين بالسفر إلى الاتحاد الأوروبي بدون تأشيرة، مما يجعل في الغالِب أنْ يذهب الكثير منهم إلى هناك لطلب اللجوء. وسيكون الغرب، الذي انقسم حتّى الآن حول العقوبات الجديدة ضد روسيا، أكثر اتحاداً من أي وقت مضى مُنْذ الحرب الباردة. حتّى في ألمانيا، حيث كان النظام السياسي أكثر تردُّداً في معاقبة بوتين، فإن الوضع سيتغير. وإذا كان هناك شيء واحد لن يقبله اليسار الألماني، فهو الصِراع المُسلح، خاصة عندما يُقْتَل مدنيون. ويُذْكر أنّ مسؤول دفاعي ألماني رفيع قال “إنّ الغزو سيوحِّد الناتو كما لمْ يحدُثْ من قبل”. ومن المُرجّح أن يؤدي إلى نشر مزيد من القوات الأمريكية في أوروبا وتعليق اتفاق الغرب مع روسيا على عدم إنشاء قواعِد دائمة للناتو في دول البلطيق أو في وسط وشرق أوروبا، وستتكثّف المُحادثات في فنلندا والسويد للانْضِمام إلى الناتو، وسيتبخّر إحْجام ألمانيا عن إنْفاق المزيد على الدفاع، وستحِثّ الولايات المتحدة التي ستمتد قواتها بين أوروبا وآسيا، الأوروبيين على تحمُّل المزيد من المسؤولية عن أمنهم. لقد تغيّرت البيئة الأمنية في أوروبا بشكل جذري، مِمّا أدى إلى إشعال الصِراعات في أماكِن أخرى من القارة، مثل البوسنة والهرسك في المقام الأول. ويمكن لروسيا استخدام نفوذها هناك وفي أجزاء أخرى من البلقان، وخاصة صربيا، لإثارة انقسامات جديدة في أوروبا. أحد الأسئلة الكبيرة هو ما إذا كان بوتين مُسْتَعِداً لتحمُّل الضربة الهائلة التي سيتلقاها الاقتصاد الروسي في أعقاب الغزو. سيفرض الغرب عقوبات أشد على روسيا مِمّا هو عليه الحال الآن. إلى جانب الخطوات الأولية، مثل إلغاء مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 وتعليق روسيا من نظام الدفع المالي الدولي المعروف باسم سويفت، يُمْكِن للولايات المتحدة أنْ تفْرِض عقوبات شديدة تشِلّ البنوك الروسية، مِمّا يجعل من المُسْتحيل عليها تقريباً العمل دولياً. ستجْعل هذه التحرُّكات روسيا أكثر اعْتِماداً على الصين، مِمّا يعرِّض بوتين لضغوط بكين. روسيا، وهي مورِّد رئيسي للغاز والنفط، لن تكون الوحيدة التي ستتألّم، فمن المُرجَّح أن تؤدي العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة في البلاد إلى ارتفاع أسعار السِلع عالمياً، وهو ما قد يشْعُر به المُستهلكون على الفور تقريباً في محطات الوقود وفواتير التدفئة. وبينما سيشْعُر البعض بالقلق من أنّ غزو روسي آخر لأوكرانيا قد يعيد أوروبا إلى الحرب الباردة، فإن هذا الأمر يمكن أنْ يكون نِصفه صحيحاً. فخلال معظم فترات الحرب الباردة، كانت العلاقات بين الشرق والغرب مُسْتَقِرّة، وتحْكُمها سِلسِلة من اتفاقيات الحدِّ من التسلُّح والمعاهدات الأخرى، غير أنّ ما قد يحدُث الآن يَعِد بأنْ يكون التنبؤ به أكثر صعوبة. فعلى عكس الحرب الباردة، يتعيّن على الولايات المتحدة الآن أنْ تقسِّم اهتمامها بين آسيا وأوروبا. فهنالك مصدر قلق كبير آخر هو الصين التي قد تستخدم الأزمة في أوكرانيا لمحاولة السيطرة على تايوان بالقوة، وهي خطوة من شأنها أن تدفع العالم إلى أزمة أعمق. ويتوقع كوفمان كل ذلك ويقول “من المؤكد أنّ الوضع سيصبح أكثر قتامة وأسوأ بكثير مِمّا حدث سابقاً، قبل أنْ يتحسّن”، ويضيف “سنعود إلى عالم قديم للغاية كان البعض منّا يأمل ألّا يراه مرة أخرى”. بوخارست 2 فبراير 2022 isammahgoub@gmail.com