كنا جميعنا نتطلع إلى فجر جديد.. وقد طال ليلنا الذي لم نذق فيه للنوم طعماً.. وبتنا ليلتنا الليلاء تلك.. كما بات السليم مسهداً.. تقاذفنا الهموم والأوهام كمركب تلهو به الأمواج العاتية وسط اعاصير هائجة.. فكان نومنا كنوم الديك في الحبل. أو نوم الذئب. الذي ينام بإحدى مقلتيه.. ويتقي بالأخرى.. فهو يقظان.. هاجع.. بعد أن ملأنا راتب الإمام المهدى.. والقرآن الكريم والأوراد المأثورة شحنة روحية عالية.. فوضنا أمرنا لله.. وانصرفنا للاستعداد لجلسة المحكمة العسكرية.
للمرة الأولى منذ شهرين رأى كل منا وجهه.. بعد أن سمح لذوينا بإحضار بعض احتياجاتنا.. ومن بينها الملابس والمرايا.. لقد نفر كثيرون من رؤية وجههم! لقد كدنا ننسى ملامحنا! فلم نعرفها إلا بعد توهم.. ثم تحسسنا الملابس النظيفة المكوية المعطرة.. بعد طول فراق! لقد أصبحنا الآن أقرب إلى الناس.. بعد ان كنا اشباحاً واشباهاً.. لقد أحسسنا بالحياة والتشبث بها.
كان المنظر رهيباً مؤثراً.. ونحن في طريقنا إلى قاعة المحكمة العسكرية.. محاطون بسور من الجند والحراس سيراً على الأقدام.. إذ رأينا للمرة الأولى بعضاً من ذوينا.. جاءوا لرؤيتنا.. والتأكد من أننا لا زلنا على قيد الحياة بعد أن كثرت حولنا الشائعات.
كان المشهد عاطفياً مؤثراً.. كان ذوونا يتدافعون بالمناكب والإقدام لتحيتنا. والحراس يدفعونهم بقسوة متناهية خارج المربع الذي كنا بداخله.. كانوا رجالاً ونساء واطفالاً.. جاءوا وقلوبهم من لوعة تتقطع.. فانهار كثيرون وتماسك آخرون.. رأيت أخي الصغير بقادي والدمع يترقرق في مقلتيه.. وأعمامي مصطفى ختم.. ومدني اسماعيل وآخرون.. يتحاشون النظر إلى وجهي ويحاولون التماسك والجلد.. ويشدون من أزر أخي.. الذي هده البكاء.. منظر لو رآه المرء في المنام لفزع!
كانت هيئة المحكمة تمثل الرهبة والمهابة.. الحراس المدججون بالسلاح يحيطون بالقاعة.. واجلس ذوونا في أقصى شمال القاعة.. وجلس المتهمون في أماكنهم.. كأنما على رؤوسهم الطير.. تليت أقوال المتهمين على الملأ.. وهي في حقيقة الأمر ما أملاه “المتحريون” على ضحاياهم.. وقد أنكر الجميع تلك الأقوال جملة وتفصيلا.. وأرينا المحكمة ما حل بأجسادنا من تعذيب وتشويه.. وقد رأى ذوونا كل ذلك وسمعوا.. وهالهم ما رأوا وسمعوا! وسط دهشة رجال الأمن.. الهلالي وزمرته.. الذين استشاطوا غضباً من انهيار كل ما بنوه من أدلة موثقة.. وان أنباء التعذيب سوف يسير بها الركبان في طول السودان وعرضه.. وهددونا بالإعدام بعد أن رفعت الجلسة.. لقد كسبنا معركة ولا زالت الحرب مستمرة.
سارت بقية الجلسات على ذات الوتيرة.. وقد ازدادت ثقتنا في أنفسنا.. وارتاحت نفوسنا برؤية ذوينا كل يوم.. وتبادل المعلومات معهم.. كما تحسنت صحتنا بالغذاء والدواء.
كانت بالنسبة لي هناك مشكلتان.. الأولى جواز السفر الذي سافرت به إلى ليبيا في ديسمبر75.. وورد في كثير من الأقوال.. المنكورة.. بأنني الذي جئت بالتعليمات النهائية للتحرك.. وجواز السفر بينة قوية على ذلك.. والثانية ادعاء بعض الجنود باني ذلك الطالب الذى رأوه في مكان الأحداث.. وأنهم مستعدون للتعرف عليه.
القضية الأولى.. استطعنا حلها عبر اختراق أحد رجال الأمن الذي استبدل الجواز المشبوه.. وجواز سفر لي آخر برئ لا تحوم حوله شبهة.. وتبقت مشكلة طابور الشخصية.. لقد استطاعوا التعرف على كل من عرض في الطابور اللعين.. الشهداء ابراهيم ابو الجدى ود.عبدالله ميرغنى وعبد الفضيل ابراهيم وآخرين.. ولكنهم فشلوا في التعرف على.. ما زاد من غضب جماعة الأمن.. فأخرجوني من الطابور وسألوا الجنود مباشرة.. هل رأيتم هذا الشخص؟ فأجاب ثلاثتهم بأنهم لم يروني قط من قبل!!ما زاد من عجب وحيرة جماعة الهلالي.. فقابلوني بعد رفع الجلسة وهم يهددوني بالويل والثبور وعظائم الأمور.. قائلين.. دا كله ما بحلك.
انتهت المحكمة من إجراءات محاكمة المتهمين الـ 25 في اثنتي عشرة جلسة فقط.. وعدنا إلى عنبرنا الكئيب في انتظار نتيجة الامتحان المكشوف.. وفوضنا أمرنا لله وصبرنا.. اللوحة الأخيرة بإذن الله.. يوم الموقف العظيم.. يوم اعلان النتيجة.. حيث يكرم المرء أو يهان.. فالأعمار بيد الله وحده لا بيد المحكمة.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
- الكاتب: سياسي قيادي وكاتب