البهرة ولد الطيب .. كان رجلاً من رجال المَحَرَى ، هكذا قال الشفيع الانصارى .. وإن كنتم عجامى ، فاعرفو ان رجال المَحَرَى هم من نتحراهم عند الضيق ! البهرة ولد الطيب كان رجلآ متفردآ ومتميزآ .. وكان آخر الابطال .. البهرة ولد الطيب حكاية تحكى تاريخ جدودكم يا ناس عدلان .. فهم قوم دخلو هذى الديار على أسنة الرماح .. ومثلهم عاش الرجل على أسنة الرماح ! الدنيا فى عينه إما صرت أسدآ أو أكلتك الذئاب .. قال لي مرة ( ما إجتمع فريقان فى ساحة دواس إلا كان أول دم يطير من فج الرؤوس من فعل ذراعي) ! قال (أن أكثر ما يحيره فى هذه الدنيا (كيف أن رجلآ تطلع عليه الشمس وهو راقد على فراشه) .. قال ( إن أردت ان يرتد اليك عقلك ويصفو ذهنك ، وإن أردت التفكر والتأمل ، توسط الجاموس ابوحراب ) .. إختر لذلك وقتين ، إما مطلع الشمس أو مغيبها !
البهرة ولد الطيب فتى أتى من صلب الرجلين ، الضاي ول حاشى عقيد الخيل وغبوش ول عدلان تور النحلة .. سلواه فى الطفولة أن يردفه الضاي ابوزرايب خلفه على جواده الاشقر ليحكى له عن سر الحِديبة ! هل قلت لكم ان الضاي ول حاشى كان يكنى بأبى حديبة ؟ كان أحيدب .. ودرعه كان الداوودى وباقى الفرسان دروعهم الهكساي .. والدرع الداوودى يا جماعة الخير لا تعدى منه الرماح .. لذلك أصاب منه المسيرية مطمورة العنق يوم موقعة مُجلد الدُواس .. حكى له عقيد الخيل كيف أن أخوانه كانو يأتون بالسمن الفاير فيفرغونه فى جرح العنق ثم يرفعونه ورأسه مدلى الى الارض فيخرج السمن والصديد حتى شفاه الله .. فى طفولته كان يجمع اللحاء لجده تاور ول غبوش ليفتل حبالآ تربط بها الخيول والعجول المصاليب .. كانت مهنة لم يتركها للخدم رغم أنهم كانو كُثُر ، لا لشئ وأنما ليحكى له عن غبوش والباشا عيال عدلان .. حين ارادو التَرَب أي الولد تلولحُو خيولهم حتى ديار الحوازمة الحلفا .. لحضور الجمعية حيث يعرض الفرسان بخيولهم، وتعدد على السبحة أمام الحكامات ما لديك من فضائل تميزك عن المنافسين .. والجمعية وقتها كانت ساحة قد يصيب فيها المرء أم العيال .. قيل أن الحَلَفَا بالمنطقة الشرقية من ج كردفان قد إستقبلوهم خير أستقبال وأكرموهم .. ويوم الجمعية بعد أن حمى وطيس النقارة وإقشعرت الابدان ، خرجت للدارة فتاتان كانتا بنات فلان ابن فلان ، وكانتا اختين ، لن تنظر اليهن دون الصلاة على النبي ، فتاتان تسابق اليهن الفرسان لقلبِهِن ، وما إنقلبن لأي من الفرسان ! والعادة وقتها ان تنقلِب البنت لك إذا اقتنعت بافعالك وتأكد لها ثباتك عند الشدائد ، وإلا دعها لغيرك .. تقدم اليهن عيال عدلان وهما على ظهور خيلهم ، فوقفت الفتاتان ، وفى عرف العطاوة أن آتو بما عندكم .. قال الباشا وهو يهز زراعه، لن نتحدث عن المال فالمال يأتى ويروح ، ولن نتحدث عن العِرق ونحن سُرّة العطاوة .. ولن نتحدث عن الجود فذاك إسمعوه من الناس ، لكن سنحدثكم عن خصلة إن فاتنا فيها فارس فهذا طرفنا وإلا فنحن أولى ! قال .. نحن أخوان ، ومنذ أن عرفنا الدنيا بل قبل ان نعرفها فراشنا واحد و ماعُونَنا واحد ، وحتى بعد ان تزوجنا ما نام احدنا فى بيته ! إنقلبت الفتيات ، إحداهما جابت جد البهرة ولد الطيب ، فالرجل رضع المَحَنّة ! حكى له جده تاور ول غبوش كيف أن تور النحلة كان قبل كل نهيض ، يصطف الصبية حوله هذا يطلب بقرة وذاك يطلب عجلآ وآخر يبغى فرسآ ، كان ينيمهم على ذراعه ويسألهم إن سمعو شيئآ ، فتبرق عيون الصبية مع قسم غليظ بأنهم سمعو صهيل الخيل خوار العجول المصاليب ، فالرجل كانت ذراعه تأتى بالخيول والعجول عند كل نهيض !
البهرة ولد الطيب كان آخر الرجال ولن أوفيه حقه إن لم أحكى أيام المِحْنة و أيام الخراب ، فذلك حقاً كان الخراب ! كانت حقآ مصيبة أصابت الروح وقطعت القلب والرحم ومحقت المال ! ومن ضعينة كانت تسد عين الشمس صارت قطيعآ تظله شجرة ! والأمر يا أحبة حدث أيام الانجليز ، بعد سنين من الامن والرخاء والعمار وخريف توالى إثر خريف حتى سربت البار (الابقار) قبل الضحى .. فاصاب العيال البِدِنْ .. وكثرت ليالى الفرح .. وفى إحداها وكانت تشبه ( ام قلوبة هن ترتور )عفوآ أحبتى من منكم يعرف ام قلوبة هن ترتور ؟ ففى ختان العمدة ترتور إرتحلت كل القبائل الى الفرشاية من نواحي الدلنج. فجاءت كنانة .. بنى فضل .. برقد .. مسيرية .. اولاد هلال .. فلاتة واهلنا النوبة ، أتو من الصِبِيّ والمندل وتندية وسلارا ولم يبقى أحد من الحوازمة حتى الحلفا ، فالضاي عقيد الخيل كان رجل لكل القبائل ، وأتى كل هؤلاء بذبائحهم .. وحتى الانجليز كانو حضورآ .. وظلت النقارة تكتل اسبوعآ بحاله .. ولا يدرى احدٌ كم ذُبِح حينها من الضان والثيران والإبل .. قُصْرَ الحديث ، إنقلبت الدنيا لذلك أسموها ام قلوبة .. فى واحدة اخرى مثلها وكما قلت الصبيان قد أصابهم البِدِنْ والدنيا عِصَير والنقارة صوتها يصم الآذان . إنطلقت سكين ٌ تغالط الناس فيها زمنآ .. حيٌ منهم قال ان حديدها مبرد وآخر قال ان حديدها مغنطيس ، لكن الجميع يدرى انها من دق شيخ الدين امير السناديل ..إنطلقت تلك السكين لتصيب نحر نوار ولد الطيب ! ومن ذراع من تخيلو ؟ أخوه إبن عمه وسجيله !! و أيضاً من سُرّة عدلان ، حامد ولد احمد الجَمُر . حامد ونوار كانا ممن يسمونهم هذا يُقْتَل فى هذا ، إن لم تنسو لغو العرب .. كانا دون العشرين ! وحتى البهرة ولد الطيب ما اكمل عشرين رشاشآ ، ذلكم كان الشيطان ونِعْمَ بالله ! كانت مِحنة .. كانت مصيبة .. كانت خراب .. صار بعدها ما صار .. بقي نوار عاماَ ونصف بين الموت والحياة .. يخرج الصديد والوعي من صدره ، لكن ، من تَوجَعْ وشال التقيلة ؟
كان البهرة !
ترك الاكل ، ترك النوم ، ترك البار وترك كل شئ إلا أن يأخذ بثأر أخيه .. قال لي لاقانى الطيب ولد احمد الجمر وهو اصغر العيال ، سعى إلى مسلمآ فى وادى “جاربيضك” عند مَعْدَى حجير الدليب وكان مازال طفلآ .. قال فكرت أن أتكيه وأنحره ، لكن خشيت قول العرب أن ثأرى طاح على طفل ، لذلك إنتظرت .. قال فى كل خطوة كان خلفه عمه الضاي ول تاور ، حتى أتاهم الخبر رقيقآ بأن احمد الجمر وزوجته أم حامد فى المركز لزيارة إبنهم المحبوس ، من منكم يعرف الشِقيق الذى امام المركز ؟ كان وقتها عميقإ وتغطيه الاشجار .. إختبأو فيه ، حتى خرج والد الجانى وزوجته ، لحقو بهم عند بئر السوق مكان بنك الخرطوم الآن ، كان يومآ كريها لا أعاد الله مثله ، أن يفعل البهرة بسكينه وعصاه ما فعله على جسد عمه لتسيل الدماء انهارآ وسط صياح اهل السوق والبهرة قد تمزقت ثيابه يسير وسطهم وسكينه تقطر دمآ ! وعمه ملقيآ خلفه بين الحياة والموت. قرر بعض من الشرطة ان لا سبيل لإعتقال الرجل إلا بإطلاق النار عليه لولا ان قفز ابكورة ولد العشا بزيه الرسمى حاملآ سلاحه وكان شرطيآ ، وإلتزم أمام المفتش الانجليزى ان يسلمه للشرطة لكن بمعرفته ، وافق البهرة ان يسلم نفسه لكن بعد ان يزور اخيه فى المستشفى فهو قد اقسم منذ يوم الحادث ان لا يزوره إلا بعد ان يأخذ بثأره . والده الطيب ول تاور كان رجلآ رقيقآ ، لم يتحمل الامر فرش فروة تحت سرير إبنه وإنتظر أمر الله ! نوار ظل هكذا بين الموت والحياة والبهرة والضاي اودعوهم الحبس ، لكن ماذا حدث للمال ؟ سماعين جنميرى وكباشى كانا ليسو إلا اطفال. جردة وحوة بنات تاور صارن هن الرجال قادن المسار من دار الى دار وكلما حطن المسار فى دار فجعهن الوباء ! ابو دميعات وابو دَقَلِى ، فى كل دار كن يتركن ما بين الخمسين والمائة من خيرة البار نافقات فيهربن بما بقى بعيدآ عن الوباء ليتكرر الامر .. كان خراب .. فقد مُحِق كل المال إلا من قليل .. الحسابات كانت بالغة التعقيد ، إن مات نوار سيشنق حامد وإن مات احمد سيشنق البهرة والطيب ول تاور لن يتحمل فقد إبنيه ، كان سيلحقهم ولا حيلة ! خمسة رجال يا أمة محمد كلهم من صلب رجل واحد تخيلو ! لكن شرآ أهون من شر .. تعافى نوار وعفا الجماعة عن حامد والبهرة ، فخرجو من السجن ليجدو ان المال قد راح .. كانت ملحمة اخرى ان يعاد المال الى ما كان عليه ..
الف رحمة عليك يا فارس القبيلة و آخر الرجال .. صحيح أن التراث ملئ بالدروس والعبر ويبقى لنا كيف نعتبر بها …
قصة ” البهرة ولد ااطيب ”
اطلعت على قصة البهرة ولد الطيب له الرحمة والمغفرة لكاتبها دكتور الضاوي نوار ، وقرأتها بتمعن لعدة مرات فهي قطعة أدبية واجتماعية في غاية الروعة لرصانة لغتها المأخوذة من مصطلح ونبرات الكلم في المجتمع المحلي بدو الحوازمة البقارة في كردفان، فنقلت بدقة وصدق هذه الأحداث وارث التعاطي و المعالجة.
دكتور الضاوي استشاري في الجراحة يعمل بالمستشفى العسكري بوادي الدواسر بالسعودية دقيق في مهنته التي من ادواتها المشرط. لكن أيضا له قلم سيال المداد و يملك نواصي الكلم وتفاصيل حياة مجتمعه الذي لم تبعده عنه مجاهل كسب العيش. وهو من هواة التوثيق ونقل الدرر من الاجتماعيات ، فذلك من صميم اهتماماته كما قال لي ، رغم أن مهنته لا تعطيه الفرصة للقيام بمثل هذا العمل الضرار.
وقفت مطولا في “ام قلوبه هن ترتور” هي ملحمة احتفالية جمعت اهل المنطقة بكل تنوعهم يتقاسمون الفرح ويشاركون فيه والنقارة “تكتل” لاسبوع بكامله تلك كلمة تحكي حيوية نشاط لا يتصوره إلا من عايش زخمه بنفسه. ولا تاتي أهميته فقط في صنع الفرح وكرم الضيافة لكن الاهم كان الربط بين مكونات المنطقة الاجتماعية والتأسيس لقاعدة واسعة من التعارف وتبادل الاحترام والتقدير وتعزيز ثقافة التعايش بسلام، خاصة أن من يؤمها هم كل طبقات مجتمع قبائل المنطقة من الفرد العادي إلى الناظر والمك و الكجور وحتى الاداريين من الإنجليز في ذلك الزمن كان لهم حضور ..
شئ آخر هو ” الجمعية ” والترحال لها من منطقة الى اخرى وتباعد المسافات وادب الممارسة العالي فيها، والجمعية عادة ألفها اهل المنطقة حيث يقام فيها سباق الخيل والفروسية واستعراض المفاخر وفاضل الافعال دون الاساءة للغير وهنا تكون درجة مقامك عند القوم آخر حبة من السبحة التي عددت أفعالك وانت تقف امام الحكامة لتقول برايها ان كنت مؤهلا لصفة فارس و تصنف من علية القوم في الجود والكرم والتميز وسط الأقران بالفضائل. والا فعليك أن تبحث عن ساحة أخرى. لذلك كان القوم يتحرون الوقوع في العيب وشين الفعل الذي يمسك الضهر ويضعك في آخر قائمة الرجال…
القصة ورد فيها تلك المحنة التي وقعت بين أبناء العمومة والصرة الواحدة وكيف تم تجاوزها بالصبر. وتلك قصة حقيقية احد ابطالها البهرة ولد الطيب الذي رحل قبل اسابيع له الرحمة والمغفرة.
هءه الأحداث يستفاد منها في أن القدر واقع ورغم العواطف والحمية التي قد تقود إلى الخراب لكن أيضا الحكمة دائما حاضرة لتجاوز هذه الكوارث والتحديات وليس الأمر دائما يترك ليفصل فيه حماس الشباب. بل الكبار لهم الحسم في هذه المنعطفات وهذا للاسف تقاصر اليوم وانزوى.
نعم قصة “البهره ولد الطيب” مأخوذة من الواقع وفي سياق تاريخي و اجتماعي محدد ربما تجاوزه الحال اليوم لكن ما زالت الحكمة تجلس على عرشها وتحتاج فقط إلى آليات جديدة للتفعيلف في مواجهة تحديات الحاضر.
الشعب السوداني كله مشبع بالقيم الفاضله و اذا تم الغوص في تفاصيل مجتمعاتنا في الشرق / الشمال /الوسط / الغرب أو جنوبه الجديد فهو متشابه في كثير من المشتركات الاجتماعية والقيم ويمكن لهذه القيم أن تثري وتعزز الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي وتقوي الترابط وذلك بالتأكيد على الايجابي منها واستبعاد ما هو سلبي ..
التحية للدكتور الضاوي نوار الطيب على هذا العمل الأدبي الجميل والذي أيضا حمل إلينا نبضات من التاريخ الاجتماعي والانثروبلوجيا .. هذا العمل بحاجة للتوثيق كما نحن بحاجة للتذكير به كذلك لابد من تمليكه لجيل اليوم الذي لم يعايشه أو يملك حتى تصور له. واصل يا دكتور في امتاعنا بمثل هذا العمل الجميل.. تحياتي
العالم دقاش..
السعودية/ الرياض
٨/فبراير ٢٠٢٢م