تفيد منظمة للأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) بأن الأمن الغذائي والتغذية والزراعة المستدامة هما من أهم سبل تحقيق كل الأهداف الإنمائية المستدامة بحلول عام 2030م، وأن هناك علاقة بين وجود السلم وبين الأمن الغذائي، إذ لا يمكن تحقيق السلام بدون الأمن الغذائي، والعكس صحيح أيضا. وتُعد البلدان التي بها صراعات ممتدة لفترة طويلة، أو تتعرض بكثرة إلى كوارث طبيعية، هي الأكثر عرضةً للفقر وانعدام الغذاء. ووفقا لمنظمة الأغذية والزراعة، لا يتحقق الأمن الغذائي إلا عندما يتمتع جميع البشر في كل الأوقات بفرص الحصول المادي والاجتماعي والاقتصادي، والحصول على “أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي حاجاتهم التغذوية وتناسب أذواقهم الغذائية كي يعيشوا حياة توفر لهم النشاط والصحة.”
وللأمن الغذائي تعريف تقليدي يرتبط بتحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة باعتمادها على مواردها وإمكانياتها في إنتاج احتياجاتها الغذائية بصورة تعادل أو تزيد عن الطلب المحلي بصورة مطلقة. وهذه ممارسة غير واقعية لكثير من الدول التى لا تتمتع بطبيعة مثالية، وذلك لأسباب عدة منها إختلاف طبيعة كل منطقة وقدرتها على إنتاج محاصيل بعينها. في حين تطور هذا المفهوم وفقا لمنظمة (الفاو) بأنه من الضروري توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين لاحتياجاتهم بصورة مستمرة وصحية، وهو ما لا يمكن تحقيقه في حالة افتقاد السلم انسجاماً مع التحولات البيئية والسكانية والاقتصادية العالمية. هذا بالإضافة لآثار العولمة في طرح مفهوم التبادل التجاري لتحقيق مزيدٍ من الرفاهية العالمية عند تحقيق عدد من المزايا بتوفر جميع السلع على مدار العام. وهذا فضلا عن دخول مفاهيم المواصفات والجودة عند عرض السلع، وإتاحة موارد غذائية تناسب كافة شرائح المجتمع بإختلاف مستوى دخولهم.
وتعد الممارسات الزراعية المستدامة هي التي يتم تطويرها وصيانتها بصورة مستمرة، من المحافظة على التربة والمياه والموارد الزراعية والمحاصيل، وزراعة المزيد من الغذاء بإستخدام تكنلوجيا الزراعة لمحاصيل محسنة وتتاقلم مع التقلبات المناخية المختلفة وبإنتاجية عالية. ومن الممارسات التي يمكن أن تساعد في حماية جودة الأغذية، وزيادة مدة صلاحيتها، وضمان سلامتها التأكد من عدم وجود ملوثات تضر بالنباتات وبصحة الانسان، كذلك لضبط المواصفات والمقاييس الصحية العالمية لتعزيز دور الصادرات الغذائية في الاقتصاد. لذلك تعد الممارسات الزراعية المستدامة هي أحد أهم وسائل مكافحة الجوع والأنواع المختلفة من سوء التغذية (من نقص التغذية إلى البدانة)، وإغناء الغذاء الذي يركز على إنتاج أغذية غنية بالمكونات الطبيعية من الفيتامينات والمعادن الرئيسية، وتكون خاليةً من الأسمدة والمواد الضارة. غير أنه لا يمكن أن يتحقق القضاء على الجوع والانعدام الغذائي دون معالجة النزاعات وانعدام الأمن، وذلك لوجود علاقة متينة (وسببية أحيانا) بين الأمن والنزاعات والأمن الغذائي، حيث تتزايد الفجوة بين تحقيق الهدف الثاني من أهداف الإنمائية المستدامة (وهو القضاء على الجوع)، والهدف السادس العشر (وهو السلام والعدالة والمؤسسات القوية)، إذ أن هناك فجوةً كبيرةً تزداد اتساعا في تحقيق الأهداف الإنمائية خاصة بين المجتمعات االمتضررة التي تتعرض إلى مستويات مرتفعة من العنف والدول التي تتعرض للكوارث الطبيعية. وبالرجوع لبعض مقاصد الهدف السادس عشر من أهداف الإنمائية المستدامة الذي يسعى للحد من جميع أشكال العنف بدرجة كبيرة، نجد أنه يتضمن إنهاء إساءة المعاملة والاستغلال والاتجار بالبشر وجميع أشكال العنف ضد الأطفال وتعذيبهم، والحد بدرجة كبيرة من الفساد والرشوة بجميع أشكالهما، وإنشاء مؤسسات فعالة وشفافة وخاضعة للمساءلة على جميع المستويات، وتوسيع وتعزيز مشاركة البلدان النامية في مؤسسات الحوكمة العالمية.
وتعتبر النزاعات من أهم العوامل التي لها تأثير سلبي كبير على الأمن الغذائي، وأن الجوع قد يكون أحد أهم مسببات عدم الاستقرار، وأن تعزيز الاستثمار في الأمن الغذائي قد يساعد في منع الأزمات، والتخفيف من حدتها، وتسريع عملية التعافي وبناء السلام. فعلى سبيل المثال هناك صلة وثيقة بين الجوع والنزاعات المسلحة، حيث تؤدي الحروب والنزاعات حول الموارد المحدودة وغيرها من النزاعات إلى انعدام الأمن الغذائي والجوع. وقد يتسبب الجوع وانعدام الغذائي في تأجيج النزاعات واللجوء إلى العنف وتجدد الاضطرابات وتزعزع سبل ضمان إمدادات الغذاء للسكان. وعادة ما تسعى الحكومات (الراشدة) إلى ضمان حصول السكان في مناطق النزاعات على الطرق الآمنة لوصول الإمدادات الغذائية. لذلك يعتبر الاستثمار في الامن الغذائي عاملاً حاسما لضمان ترسيخ السلام.
وينبغي على الدول التي تعيش حالات من الصراعات الداخلية الاهتمام بالأمن الغذائي لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل بمساعدة مجتمعها المدني والمنظمات الدولية، حيث أن الإعمار في مرحلة ما بعد النزاعات والحروب تحتاج إلى تمكين السكان من تحقيق الأمن الغذائي بمختلف الوسائل منعاً من تجدد الاضطرابات الناتجة عن عدم توفر الآمن الغذائي. حيث أن من مقاصد الهدف الثاني لأهداف الإنمائية المستدامة (القضاء على الجوع) لضمان حصول الجميع، ولا سيما الفقراء والفئات الضعيفة، على الغذاء الكافي ومضاعفة الانتاجية الزراعية وزيادة دخل صغار منتجي الأغذية خاصة النساء، وضمان وجود نظم إنتاج غذائي مستدامة، وتنفيذ ممارسات زراعية متينة تؤدي إلى زيادة إنتاجية المحاصيل.
وبالنظر للقارة الافريقية التي لازالت في غالب أقطارها تعاني من بطء التنمية وعدم كفاية الإنتاج الغذائي، وليس لديها برامج فعالة للتصدي للتغيرات المناخية، نجد أن كثيراً من دولها قد أصابتها حالات الجفاف وتدهور الأراضي مما سبب انخفاضا وهبوطا كبيراً في إنتاجية الأرض الزراعية والمراعي، وأصبح ذلك مهددا للأمن الغذائي في العدید من البلدان الأفريقية بالرغم من أنها قارة غنیة بالموارد الطبيعية والبشرية، وتتفاوت فيها معدلات النمو الاقتصادي. وفي العقد الأخير حققت بعض الدول الأفريقية معدلات نمو اقتصادي مرتفع. وفي المقابل، فإن دولا أخرى فيها بقيت تعاني من الاضطرابات السياسية الأمنية والانعدام الغذائي والجوع وانعدام السلم والأمن الاجتماعيين.
لذلك فإن تراجع الجهود للقضاء على الجوع ليست محصورة فقط في المواسم التي تحدث فيها موجات الجفاف، بل إبان الحروب طويلة الأمد أيضا، حيث أن تصاعد العنف على نطاق واسع وطويل الأمد يؤدي إلى نزوح السكان، ورفع أسعار المواد الغذائية، ومنع المساعدات الغذائية الخارجية كمؤشر مهم من مؤشرات الجوع. ويعد هذا من أكبر التحديات التي تواجها القارة الافريقية رغم إمكانياتها الزراعية الواسعة والمتعددة. وتشير بعض الدراسات أن أكثر البلدان الأفريقية معاناةً من انعدام الأمن الغذائي، هي موريتانيا ومالي ونيجيريا، وتشاد وإثيوبيا وكينيا والصومال وموزمبيق وزيمبابوي والسودان.
وبالنظر لدولة السودان الذي تتوفر فيه مقومات الأمن الغذائي من الموارد الطبيعية الأرض والمياه والموارد البشرية، نجد أن الزراعة فيه لم تحقق الإنتاج الكافي لمقابلة الطلب على الاغذية، مما الجأه إلى استيراد احتياجاته من السلع الغذائية الرئيسية، وأسهم ذلك في مضاعفة أسعار السلع الأساسية. ورغم التعويل على السودان في سنوات خلت لتحقيق الأمن الغذائي العالمي، إلا أنه لم يستطع تحقيق أمنه الغذائي الخاص بسكانه، لأسباب مختلفة منها تزايد الأعداد الكبيرة من النازحين، ومن بينهم اللاجئين من البلدان المجاورة، والأوضاع والسياسات الاقتصادية المضطربة، وتزايد تقلب المناخ، والتدهور البيئي، وتفشي الأمراض، وسوء التغذية، وتفاوت مخاطر الانتكاس مرة أخرى إلى نزاعات محتملة. وكل تلك العوامل تمثل تحديات كبيرة تشير إلى ازدياد معدلات الجوع المحتملة، هذا بالإضافة لتلك الآثار التي خلفتها الصراعات القبلبية الداخلية ولازالت بعض المناطق تعاني منها، مما يتسبب في تعطيل نقل المنتجات إلى الأسواق وتدمير البنية التحتية الأساسية، مما يزيد من تقلب أسعار الغذاء، وكذلك ظهور آفات المحاصيل مثل انتشار الجراد وغيرها من الآفات الزراعية الأخرى. ونتيجة لذلك حصل السودان على الترتيب الثالث عشر عربياً والـ 112 عالميا وفق مقياس الامن الغذائي للعام 2020م. كذلك صُنف السودان وفقا لتقرير منظمة مكافحة الجوع الألمانية للعام 2021م وضع السودان بأنه من الدول ذات “الوضع المقلق” في مؤشر الجوع العالمي (34.9-20.0)
ووفقًا لخطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2020م (الصادر من مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية – التقرير الرقمي الكامل للسودان) احتاج نحو 9.3 مليون سوداني إلى الدعم الإنساني في عام 2020م، بما في ذلك 6.2 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي. ويستمر مع مرور الزمن ارتفاع التضخم في الحد من القوة الشرائية للأسر، وعدم تمكن السكان من تلبية احتياجاتهم الأساسية. وتستهلك سلة الغذاء المحلية المتوسطة 75 في المائة على الأقل من دخل الأسرة. وهذا إضافة إلى افتقارهم للاحتياجات الأساسية الأخرى مثل الرعاية الطبية والحصول على المياه الصالحة للشرب والتعليم. ومع قلة الموارد، يتبنى الأشخاص آليات تكيف سلبية، مما يعرضهم لمزيد من مخاطر الحماية (خاصة العنف القائم على النوع الاجتماعي وزيادة التسرب من المدارس وعمل الأطفال).
أن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في السودان (وفي غيره من الدول التي تواجه نفس المشكلة) ستفضي إلى تردي أكبر في الخدمات العامة، مما يزيد من تعميق الحاجة الإنسانية للشرائح الضعيفة من السكان. لذا فإن من واجب الدولة التركيز على المؤشرات المعلنة من التقارير الدولية حول (المناطق المضطربة) والمرشحة لإنعدام الغذاء ومن ضمنها دولة السودان، عبر التركيز على رصد المخاطر والعوامل التي تزيد من تفاقم الأمن الغذائي، عبر إجراءات مبتكرة وفعالة لجذب المزيد من الاستثمارات الخاصة وتعزيز التغيرات التكنولوجية، والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا الرقمية في الزراعة. كذلك يجب العمل على تحسين مواءمة السياسات والإنفاق العام في مجال القطاع الزراعي لتحقيق نتائج محسنة للأمن الغذائي، وهذا مما من شأنه العمل على تحسين الكفاءة والقدرة على الصمود وشمولية الأسواق للمنتجات الزراعية.
كما يعد الاهتمام بقطاع المزارعين من أولويات معالجة الوضع المقلق للامن الغذائي بدعمهم عبر تمويلهم بقروض طويلة وقصيرة الأمد، وأن تقوم المؤسسات الزراعية بإمدادهم بالبذور المحسنة والأسمدة لحماية المحاصيل المستقبلية، بالإضافة إلى دعم أعمال وسائل الري الصغيرة التي تزيد من القدرة على الصمود على المدى الطويل في مواجهة التغيرات المناخية، ودعم الصناعات الزراعية وأصحاب المشاريع الصغيرة. كما يجب التأكيد على خلق مناخ استثماري مناسب للقطاع الخاص من أجل المشاركة الفعالة في الزراعة والأعمال التجارية الزراعية، وعلى جميع المستويات لتمهيد الطريق أمام صغار المزارعين وأصحاب الصناعات الزراعية لأداء دور مهم في تطوير قطاع الزراعة. ويمكن أيضا توسيع مظلة الأمن الغذائي بإشراك قطاعات متعدة فيه باعتباره شأنا يخص الأمن القومي للدولة، وتشترك فيه قطاعات التكنولوجيا والاتصالات وقطاعات المياه والكهرباء الخدمات اللوجستية عبر الاعلام الموجه (الإنذار المبكر للمزارعين)، والتي يمكن أن تكون عبر الرسائل النصية أو صوتية بسيطة تعلم المزارعين بمواعيد الزراعة أو الري أو التسميد و للمناخ والطقس وغيرها)، وذلك من شأنه أن يقلل من خطر انعدام الأمن الغذائي.
وأخير يجب تكييف إستراتيجية الدولة الزراعية ضمن أولويات الاندماج ضمن خطة عمل التعافي الأخضر للاتحاد الأفريقي كي ييسّر تعافي القارة من الجائحة الاخيرة والكوارث الطبيعية وتغير المناخ على نحو مستدام وأخضر، والتعاون الاقليمي والتضامن والعمل المستمر على الاحلال السريع للسلم والعودة إلى المسار التنموي.
nazikelhashmi@hotmail.com