رسم (انجلش) صورة بديعة لدخوله منطقة (السِكُّوت) فقال: (عبرنا منحدرات دال حيث ينتهي الشلال الثاني. وأخذ النهر يجري هادئاً عبر أراضي خصبة تمتاز بمناظر هي الأكثر جمالا من كل ماشاهدنا في بلاد الصعيد. وتتابعت القرى وامتدت الأراضي المشبعة بالخصب واشرأبت أشجار النخيل وأخضرت الحقول.)
ثم أضاف قوله: ( ومن وراء ضفاف النهر السندسية تمتد الرمال الصحراوية الذهبية التي تناثرت فوقها جبال داكنة، حتى استقر المنظر على هيئة سهل منبسط تتخلله تلال مبعثرة ذات أشكال بديعة.)
ثم وصف – إجمالاً – القرى العديدة والجزر الأربعين التي رأها في منطقة السكوت فقال : (كانت العين ترصد قرى متتابعة فوق ارض من أخصب ما خلق الله، تستظل بغابات من أشجار النخيل الفارعة الطول، وعلى يميننا كنا نرى سلسلة من الجزر الرائعة المنظر مما اكد لنا أن هذه البلاد تتمتع بجمال فريد أخّاذ.)
وخصص (إنجلش) فقرة متميزة لوصف جزيرة (صاي) أكبر جزر السكوت وثاني أكبر جزيرة في السودان، فقال: (ثم توقفنا عند جزيرة صاي المكتظة بالقرى حيث كانت تسير بنا المركب ونحن في ذروة المتعة على مدى أربع ساعات.)
ثم وصف حياة الناس في الجزيرة وأساليب معيشتهم وعلاقاتهم الاجتماعية فقال عنهم إنهم كانوا راضين بحالهم لأنهم يجدون ما يؤمن لهم حياة رخيّة وأنهم ينسجون بأيديهم ما يكتسون به من ملابس تتسم بالحشمة واللياقة. وقال إنهم يحتكمون في أمنهم وأمانهم على حكومة قروية (شياخة) تقوم علي نظام وراثي أبوي يجمع بين سلطة القضاء وزعامة الناس. غير أنه – ربما لطبيعة ثقافته – لم يسهب في مزايا النخلة من حيث أنها مصدر غذاء صحي ومن حيث فوائدها العمرانية واليدوية الأخرى التي يستصنعها الأهالي من سوقها وجريدها وسعفها.
ومما يتصل بوصف حياة الناس المعيشية والبيئية سجل (إنجلش) ملاحظاته حول أهمية الحيوان (الأليف منه والمتوحش) والذي كان يرتع في المنطقة.
فيصف قطعان البقر والضأن ويميز بينها وبين ما شاهده من مثيلاتها في صعيد مصر فيقول : ( تبين لي أن هناك فرق بين حجم الحيوانات في مصر وحجمها في هذه البلاد. فقد اشتريت حملاً رضيعاً كان في حجم الخروف المصري الذي يبلغ من العمر عاماً. وتختلف الابقار هنا عن أبقار مصر بكونها شبيه بالجاموس البرِّي ذي اللحم الوافر والحجم الأكبر.)
لكن الطريف أن ملاحظات (إنجليش) لم تقّتصّر على وصف الحيوان الأليف، فأضاف وصفاً لما رأه من الحيوانات المتوحشة التي كانت تجوب النيل في هذه المنطقة يومئذ فقال : ( حاول بعض رفقاء الرحلة اصطياد أحد أفراس النهر فما نجحوا إلا في إصابته بجرح سطحي ما لبث بعدها أن اختفى في أعماق الماء … ويقول أهالي هذه الناحية إن قطيعاً من أفراس النهر ظل يجوب هذه البقعة من النهر في محيط الجزر الضحلة التي توفر له العشب وتسهّل له الاختباء.)
.. إذن فقد أوفى إنجليش منطقة السكوت حقها من حيث وصف جمالها الطبيعي المدهش وأمنها الغذائي المضمون واستقرار مجتمعها وسلامته.
ولو تمعنَّا بعمق في وصف إنجلش لهذه البقع النهرية الباهرة، فلن تغيب عنّا الدلالات والمعاني البليغة التي توحيها من سحر وستر وأمان.
وكم نحن مفتقرون اليوم إلى كل ما يذهب عنا مظاهر الخوف والجوع ونقص الأنفس والثمرات، ويزيل عنا ويلات الخلاف ويمسح من اجفاننا كآبة المنظر ويقينا سوء المنقلب.
(نواصل)
aha1975@live.com