اعتدت الاستمتاع في أقصى حدّه باحتساء شاي الصباح . وما أزال أذكر كيف كنا نجلس بجوار أمي وهي تعدّه لنا بحليب طازجٍ وتزود كل كباية شاي بطبقة من السمن . أتناوله في هذا العمر مضافا إليه القرفة والزنجبيل برفقة بسكويت اليانسون وبعض التمر ، وأعتبره وجبة كاملة . وغالبا أجلس أمام التلفزيون لأتعرّف على ما فاتني أثناء نومي خاصة عندما تكون هناك بعض التوترات في الداخل او الخارج .
اليوم ، وأنا أمارس هذا الطقس ، وبعد أن فشلت القنوات العالمية في تقديم شيء يجبرني على متابعتها ، انتقلت لقناة النيل الأزرق السودانية . فوجدت مجموعة ضخمة من الموسيقيين والمؤدين ينشدون نشيدنا الباذخ ( صه يا كنار ) ، وأنا أحب هذا النشيد وأحب الصاغ محمود أبوبكر الذي يبدو لي أنه صاغه بكامل الوجدان الوطني ليصبح نشيدا لكل لأجيال .
دخلت فورا في حالة استماع وتفاعل ومتابعة دقيقة لكل حركة تصدر من المؤدين ، وهم أمامي ينشدون من أعماق أعماقهم . تبينت من بين المؤدين صلاح مصطفى ، وسيد خليفة ، وعثمان الشفيع وجميعهم بمن كانوا معهم بدوا لي شبابا يفيضون حيوية وانفعالا وسودانويةً . لكن أكثر ما لفت انتباهي الدخول المفاجئ للوزير آنذاك زين العابدين محمد أحمد عبد القادر ، وقد انضمّ للمؤدين واصطف معهم وتحول إلى مؤدٍ بارع لا يخطيء الزمن ولا تغيب عنه كلمة من كلمات النشيد . وما كنت يوما مايويا ، بل كنت دائما معارضا لمايو ، لكني أعترف اليوم أن مايو كانت مرحلة هامة جدا من مراحل العمل الوطني .
تحشرجت روحي وتشحتفت ، وغلبتني العبرة وأنا أحاول أن أؤدي مع المؤدين، فوجدت حبال عبراتي تلتف حول رقبتي وتخنقني ، وأدمعي تنزل من غير نظام .
يا الله ، هذا السودان الجميل يفسد جماله بعض أبنائه ، اللهم أهدهم سواء السبيل لإصلاح حال البلاد ، أو خذهم واترك لنا هذا الجمال لننقله لكل العالم ، ونسهم به في سعادة البشرية .
صه يا كنار وضع يمينك في يدي
و دع المزاح لذي الطلاقة و الدد
صه غير مأمور و هات مدامعا
كالارجوانة وابكى غير مصفد
ودع بدمعك من تحب فإنني
أنا إن دعوتك لن تعيش إلى غد
فاذا صغرت فكن وضيئا نيرا
مثل اليراعة في الظلام الأسود
و إذا وجدت من الفكاك بوادرا
فابذل حياتك غير مغلول اليد
فإذا إدخرت الى الصباح بسالة
فأعلم بأن اليوم أنسب من غد
و أسبق رفاقك للقيود فإنني
اّمنت أن لا حر غير مقيد
و أملأ فؤادك بالرجاء فإنها
بلقيس جاء بها ذهاب الهدهد
فإذا تبدد شمل قومك فأجمعا
فإذا أبوا فأضرب بعزمة مفرد
فالبندقية في بداد بيوتها
طلعت بمجد ليس بالمتبدد
صه يا كنار و دع يمينك في يدي
فكأن يوم رضاك ليلة مولدي
أنا كم رعيتك و الأمور عصية
و بذلت فيك كل ما ملكت يدي
و جري فؤادي نحو قلبك سلسلا
لكن قلبك كالأصم الجلمد
صه يا كنار فما فؤادي في يدي
طورا أضل و تارة لا أهتدي
و لأنت أعلم كيف أقتنص الهدى
حتي قنصت به سهاد الجدجد
و أري العوازل حين يملكنا الظمأ
فأموت من ظمأ أمام المورد
و أرود أرجاء البيان مداجيا
فأضيق من أناته بالشرد
أنا يا كنار مع الكواكب ساهر
أسري بخفق وميضها المتعدد
وعرفت أخلاق النجوم فكوكب
يهب البيان و كوكب لا يهتدي
و كويكب جم الحياة و كوكب
يعصي الصباح بضوئه المتمرد
أن كنت تستهدي النجوم فتهتدي
فانشد رضاي كما نشدت وجدد
و إن كنت لست تطيق لومة لائم
فأنا الملوم على عتاب الفرقد
صه يا كنار فبعض صمتك مسعدي
حتي شدوت فجاء شدوك مسعدي
و فضيلة بين التبسم و البكاء
لو تعلمون تجلد المتجلد
و تأمل ملأ التأمل حسنه
و كساه من حلل الأصيل العسجد
ألم تأجج في ثيابك لم يكن
ليزول دون أهابك المتوقد
غربت به الأيام و هي عوابس
فقضيتهن مودعا في الموعد
صه يا كنار فبعض صمتك موجع
قلبي و موردي الردى و مخلدي
أرأيت لولا أن شدوت لما سرت
بي سارياتك و السرى لم يحمد
أنا لا أخاف من المنون و ريبها
ما دام عزمي يا كنار مهندي
سأذود عن وطني و أهلك دونه
في الهالكين فيا ملائكة أشهدي