الفساد الواسع للدولة يظل أثره باقياً لسنوات عديدة. وعلى الرغم من ظهوره بشكل أوضح في الاقتصاد، إلاّ أن كافة القطاعات الأخرى يطالها ضرره. إذ يلقي بظلاله على الحياة السياسية، والاجتماعية والأمنية القانونية، وما إليها من مناحي الحياة. ولأن السودان يقع ضمن أكثر بلدان العالم استفحالاً للفساد، حسب تقرير سنة ٢٠١٩م الصادر من منظمة الشفافية الدولية، فقد تزامن هذا الفساد المستشري مع تدهور كبير في التنمية، وفقا لتقرير التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويستعرض واقع الدول من ناحية الصحة والتعليم والدخل، إلى جانب تضمنه مؤشرات أخرى مثل تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين ومعدل البطالة بين الشباب.
سقت هذه المقدمة لتساعدنا على فهم أعمق لظاهرة الانفلات الأمني، المسلح منه وغير المسلح، الذي تشهده مدن السودان، لا سيما بعد وصوله إلى القرى الصغيرة في شتى بقاع الوطن.
في نظري المتواضع، أن هذا الانهيار الأمني المريع تقف وراءه ثلاثة أسباب رئيسية كما يلي.
أولاً، التدهور الاقتصادي الذي كانت الإنقاذ الحكومة الأولى في استحداثه طوال التاريخ الحديث للبلاد. ومنذ سنتها الأولى في الحكم، بدأ النمو الاقتصادي في تراجع حثيث، باستثناء الفترة الممتدة من ١٩٩٩ إلى ٢٠١١م. وبانفصال الجنوب في ٢٠١١م جفت موارد غزيرة طالما كانت مصدراً للنهب المنظم من الإخوان المسلمين في سعيهم الدؤوب وراء الدنيا دون وازع من ضمير، علاوة على التوسع في التسلح بهدف قمع المعارضة ووأد تحركاتها، وغرس بذور الفرقة والشتات بين الأحزاب السياسية والكيانات الإقليمية.
الإخوان المسلمون، ومنذ أيامهم الأولى في الحكم، تولدت لديهم قناعة راسخة بأنهم يحكمون بتفويض إلهي، وليس بالتالي من حق أي شخص ان يعترض على ممارساتهم في الحكم. كانت تلك القناعة تتجلى في صلف شعارات ظلوا يرددونها ولا يملون ترديدها. وتمخضت تلك الشعارات عن إقصاء أغلب أبناء الوطن عن أية مشاركة ذات مغزى في التنمية، وبلغ بهم الصلف حد اجتراح إبادة جماعية في دارفور وشن حرب ضروس في جنوب البلاد الذي آثر الابتعاد عن هذا الهوس بانفصاله وإنشاء دولة جنوب السودان. وكان التأثير على الاقتصاد لا يخفى على حصيف.
تمخض ذلك التدهور الاقتصادي عن ارتفاع معدلات الفقر ارتفاعاً تتفاوت في تقديراته الجهات بين رسمية ومستقلة. الرسمية منها، مثل وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، وفي وثيقة استراتيجية مكافحة الفقر للسنوات من ٢٠٢١ إلى ٢٠٢٣م، والتي أشرف عليها جبريل إبراهيم، الوزير الحالي للمالية، وصدرت في أغسطس المنصرم، أشارت إلى أن معدل الفقر يبلغ في المتوسط ٦١ في المائة (ففي المناطق الريفية يصل إلى نحو ٦٧ في المائة؛ بينما يصل إلى نحو ٤٩ في المائة في المناطق الحضرية). ومن خلال مشاورات واسعة في أقاليم السودان المختلفة، كان هنالك اجماع بأن الفساد يمثل السبب الرئيس في الفقر، فضلاً عن طائفة واسعة أخرى من الأسباب كالحرب والاضطرابات الأمنية، وسوء الإدارة الاقتصادية، وتجاهل الدولة للزراعة، وارتفاع معدلات الضرائب والجبايات، وضعف الخدمات الأساسية في الريف.
الجهات المستقلة، ومن بينها منظمات الأمم المتحدة، فهي تبني تقديراتها على «المسح الوطني لميزانية الأسرة والفقر لسنة ٢٠١٤م» وهو آخر مسح من نوعه تجريه الحكومة. وفي هذا السياق، يشير تقرير التنمية البشرية لعام ٢٠٢٠م إلى أن نسبة الفقر تبلغ ٥٢ في المائة، وبعض التقديرات المستقلة الأخرى تتراوح بين ٦٠ في المائة إلى ٨٢ في المائة.
اليونيسف، مثلاً، وبحكم تخصصها في قضايا الطفولة، تقول إن الفقر بين الأطفال في ٢٠٢٠م قد بلغ ٩٧ في المائة مرتفعاً من ٤٣ في المائة في ٢٠١٤/٢٠١٥م. بينا تشير إلى معدل تضخم في الأسعار يتجاوز ٢٦٩ في المائة.
أما استفحال التدهور الاقتصادي منذ سقوط الإنقاذ في أبريل ٢٠١٩م، فهو الآخر يعزى لممارسات اللجنة الأمنية للإنقاذ، وهي الجهة المسيطرة على مسار الأوضاع السياسية والاقتصادية. وعقب الثورة المجيدة، ومع نسائم الحرية التي هبت، استطاع الشعب أن يدرك أن شركات الجيش والشركات التابعة للأجهزة الأمنية الأخرى تستحوذ على أكثر من ٨٢ في المائة من اقتصاد البلد، وتحتكره لمصلحة فئات طفيلية ينصب عملها على تدمير البلد، سواء كان ذلك بكامل وعي هذه الفئات أم بدون وعيها. ولم تكن الحكومة المدنية بقيادة حمدوك وقحت تملك شيئاً من أمرها، بدليل فشلها في أغلب ملفات الشؤون الداخلية من إعادة هيكلة الجهات الأمنية إلى تشكيل المفوضيات، إلخ.
السبب الثاني وراء الانفلات الأمني الراهن يتمثل في انتشار المليشيات المسلحة، والتي عادت إلى داخل المدن بكثافة عقب اتفاقية سلام جوبا في ٢٠٢٠م. لكننا نعلم يقيناً أن هذه المليشيات قد أنشأتها الإنقاذ ضمن استراتيجية فرق تسد التي اتبعتها وطبقتها بحذافيرها في دارفور والنيل الأزرق. وظلت القبلية نهجاً دارجاً اتبعته الإنقاذ طوال فترة حكمها. ففي أي بلد في العالم تحتوي مضابط الشرطة سؤالا عن القبيلة؟ وبهذا المنطق القبلي البشع، تستطيع أن تصنف كل الحركات المسلحة حسب القبائل التي تستند عليها تلك الحركات في عمليات تمويلها أو استنفار جيوشها المقاتلة. وبعودة هذه الجيوش من الأحراش، زاد الغبن الاجتماعي لديها في وسط المدن، وجنحت كثيراً للعنف وفي يدها السلاح وتعوزها الموارد المالية الشحيحة من ميزانية الدولة.
أما السبب الثالث، فهو تراخي الشرطة عن القيام بدورها المنوط بها دستورياً وقانونياً. وتستطيع الآن التأكد من صدق ذلك عند اتصالك بالرقم الموحد لشرطة النجدة (٩٩٩)، وهو رقم فارغ لا يستجيب أبداً. ثم أين هي الدوريات داخل الأحياء الوسطية، ناهيك عن الطرفية؟ بالطبع إذا وقفت أمام شرطي، جندياً كان أو ضابطاً، تستطيع أن تعزي تدهور خدمات الشرطة إلى سوء النفقات التي تخصصها الدولة لهذا المرفق الحيوي، في وقت لا يعوز الدولة شيئاً عند الإنفاق على أجهزة الأمن والمخابرات وقمع المعارضين.
مما تقدم، نستطيع أن نخرج بخلاصة فحواها أن غياب الأمن يمثل مشكلة اقتصادية في الصميم. فمهما كان الوازع الأخلاقي حاسماً، ومهما كانت التدابير الأمنية رادعة، فإن الفقر المدقع هو الدافع القوي لأي انفلات أمني. بعض الأسر تبيت ليلة وليلتين بدون لقمة عيش، ويتضور أطفالها جوعاً.. فماذا يفعل الشاب الذي يسهر على أسرته ولا يجد له عملاً يوفر أدنى قدر من القوت؟ وفي موازاة ذلك، لا نشك مطلقاً في أن الإنقاذ، وبمستوى الفساد الذي استشري في عهدها، هي المسؤول الأول والأخير عن وباء التدهور الاقتصادي المريع. بيد أنها لم تقف عند هذا الحد ، إنما فاقمته بالنزاعات العرقية وتسليح المجموعات القبلية لتقاتل بعضها بعضاً دون هوادة. ثم زادت الطين بلة بالخلل الكبير في توزيع ميزانية الدولة وموارد البلاد لتستأثر بها الأجهزة الأمنية، باستثناء الشرطة التي لم تعد في خدمة الشعب أبداً.
بهذه القناعة وحدها في تشخيص حالة الانفلات الأمني، يبرز الحل واضحاً وضوح الشمس في رائعة النهار: ذلك هو الحكم المدني الديمقراطي الذي يقوم على الحرية والعدالة. إن أي إبطاء نحو هذا الهدف، ستكون عواقبه وخيمة، وتكلفته عالية ليس في الأرواح والمال فحسب، إنما أيضاً في الفرص الوافرة التي تمور بها رحم المستقبل.
الردةمستحيلة | #لاتفاوضلاشراكة_لاشرعية