- من حي السيد المكي، تأثر بوردي وأحمد المصطفى وأبو داؤود واستمتع بالإنشاد الشعري لـ”أحمد عمر الشيخ” !.
( كتبت هذا المقال التوثيقي قبل سنوات عدة كمحبة خالصة وعربون إعجاب عميق بمطربنا محمد ميرغني، تقديراً لإلهام فنه، والحت علي مجموعة أغنيات دافئة له كنت أستمع إليها نهاية الأسبوع، أن أعيد نشر هذا المقال كإعادة لتأكيد محبتي الخالصة وعربوناً لإعجابي العميق به، كونه ضمن من شكلوا وجداننا ونحن في شرخ الشباب ،، أطال الله عمره وأعطاه الصحة والعافية). - حسن الجزولي
شكل ظهور الشاب ميرغني محمد ابنعوف مجذوب بحنجرته الرخيمة مولد مبدع جديد في خارطة فن الغناء السوداني في تلك السنوات من عام 1965، وكان قد سبقه للساحة الفنية في تلك الحقبة عدد من المطربين السودانيين أمثال محمد الأمين وأبوعركي البخيت وحمد الريح وغيرهم، والذين كان التنافس فيما بينهم على أشده، كونهم ولجوا الساحة في ظل وجود عمالقة من المطربين السودانيين وقتها، حيث ما يزال عدد من مطربين كإبراهيم الكاشف وأحمد المصطفى وإبراهيم عوض وحسن عطية وعثمان الشفيع ووردي وعثمان حسين يسيطرون على الخارطة الفنية. لذا كان على كل من يدخل لساحة الغناء السوداني تلك الفترة أن يكون متسلحاً بأدواته الفنية التي تفرض تنافساً شديداً لاثبات قدراته على الصمود الفني، ودون ذلك فإن مسيرة الغناء ستتخطاه بلا أي إشارة تذكر.
ولما كان بعض من المطربين السودانيين يزاوجون ما بين “الكفر والوتر” كما يقولون، فقد شاءت الصدف أن يستمع إليه كامل صالح رئيس نادي الأمير البحراوي الذي كان مطربنا يلعب له، عندما درج مع بعض أعضاء الفريق على اللقاء في أمسيات النادي ليدندنوا ببعض الأغنيات تزجية للوقت، فانتبه رئيس ناديه لطبقات صوته الرخيمة، لاسيما وأن كامل صالح هو الابن الأكبر للشاعر أبو صلاح!، فأعجب بصوته وآداءه، وظل يدفعه ويشجعه لكي يتقدم للاذاعة من أجل إجازة صوته.
وقتها كانت مقاييس الجمهور المستمع للأغنية الجيدة تتم بحسابات جد دقيقة، كون أن أذن المستمع السوداني كانت تحصر التقاطها للطرب والفن والموسيقى بواسطة وسائط محصورة، ولم تكن مبذولة كما هي عليه الميديا الحديثة والتقنية اليوم، كان الناس وقتها يتوزعون ما بين برامج إذاعة أم درمان الوحيدة إلى جانب التلفزيون والحفلات الموسمية التي كانت تقام في المسرح القومي وبقية مسارح العاصمة والأقاليم على ندرتها، وتتخلل كل ذلك الحفلات الخاصة للأسر في الأعراس والأفراح.
هكذا برز مبدعنا الذي اشتهر فيما بعد بإسم محمد ميرغني إلى ساحة الغناء، فعندما وقف في صبيحة أحد الأيام في إحدى الحجرات بمباني إذاعة أم درمان في تلك الحقبة، بدا للجنة إجازة الأصوات الجديدة في كامل ثقته وهو يؤدي أمامها أغنياته، كانت اللجنة وقتها تضم في عضويتها كل من إسماعيل عبد المعين وأحمد مرجان ومحمد عبد القادر والماحي إسماعيل إضافة لمقررها مكي سيد أحمد، قدم محمد ميرغني أمام تلك اللجنة عدداً من أغنيات الحقيبة التي كانت وما تزال مقياساً أكاديمياً فنياً، لقدرات المطربين الجدد، وقيل أن فيها نماذج محددة من الأغنيات التي تبرز أكثر قدرات هذا المطرب من الأخر!، فقدم محمد ميرغني للشاعر أبو صلاح أغنيته “البديع هواك سباني” وللجاغريو “حبيبي أنا فرحان”، وأما للشاعر سيد عبد العزيز فقدم “أنة المجروح”، إلى جانب أول أغنياته الخاصة والتي اشتهرت فيما بعد وما تزال، بإسم “أنا والأشواق” أحد أروع أغنياته وهي من كلمات الشاعر السر دوليب، هكذا لمع صوت الفنان محمد ميرغني في سماء العاصمة وبدأ ظهوره يتتالى عبر فقرات إذاعة أم درمان وبرامج التلفزيون، فبادر المذيع اللامع أحمد الزبير إلى إستصحابه عبر برنامجه الاذاعي “أشكال وألوان” الذائع الصيت وقتها.
ثابر محمد ميرغني فيما بعد ليثبت جدارته وقوة إمكانياته وأدواته الفنية التي حاز بها على إعجاب جمهور خاص تشكل عبر مسيرة ميرغني الفنية مما أهله ليتربع على عرش الغناء السوداني وفي المرتبة الأولى.
ينتمي الفنان محمد ميرغني لحي السيد المكي بمدينة أمدرمان والذي ولد فيه عام 1945 وقضى مراحل دراساته بين كل من مدرسة الهداية الأولية جوار منزل عبد الله بيك خليل بأم درمان ومدرسة شيخ أمين بجوار سينما الوطنية بالخرطوم بحري، ثم واصل تعليمه بمدارس الأحفاد بأم درمان، والتي زامل فيها بروفيسور “قاسم بدري” العميد الحالي لمؤسسة الأحفاد الأكاديمية، فيما بعد التحق محمد ميرغني بمعهد التربية بشندي ليتأهل معلماً بالمدارس الابتدائية ويتخرج ليمارس مهنته الجديدة خلال أكثر من 40 عاماً في عدد من مدارس السودان. لاسيما كلية المعلمات بأم درمان والتي قضى فيها أكثر من عشرين عاماً!.
شكل حي السيد المكي بأم درمان الوعاء الذي نهل من معينه محمد ميرغني أولى بدايات تشكل ذائقته الفنية حينما حكى كيف وأنهم صبية صغار كانوا يتلصصون بالاستماع إلى أغنيات الفنان الكبير أحمد المصطفى من نوافذ صالون الشاعر حسن عوض أبو العلا المطلة على الشارع المواجه لمنزل عبد الله بيك خليل! وكما يشير محمد ميرغني نفسه:- ( كان الأستاذ أحمد المصطفى يغني فيصيب ويملأ الألحان بانفاسه فيستوفي السقم ويحس مقاطعه الطويلة والقصيرة في دراية ومعرفة “…” أحببته منذ نعومة دواخلي وصدق احساسي الطفولي سرى في وجداننا وسحرنا، أسرنا وجرى فنه فينا مجرى الدم ،، لازلت إلى اليوم أذكر أول نغم من صوته وأنا طفل أتسلق أعمدة شباك منزل المرحوم حسن عوض أبو العلا الكائن بالقرب من منزلنا بحي السيد المكي وكان يردد :ـ (أنسى الفؤاد ياقاسي
وإذا هواي يا ناسي حياني
حب ومآسي قاسيت كتير وبعاني )
ثم يواصل قائلاً:ـ (كانت هذه هي الشرارة الأولى في دوران حركة الإبداع بيني وبين الأستاذ أحمد، فكان أن تنسمته ،، شربته ،، حفظته ،، فنا حقيقياً يملأ الجوانح ويسكن الوجدان).
إضافة إلى أن محمد ميرغني وكما يشير للمؤثرات الأولى في إبداعه، أنه كان يقرض الشعر دون أن ينظمه وهو بعد طفل، وظل يستمتع بالإنشاد الشعري لـ”أحمد عمر الشيخ” ما صقل موهبته الفنية وارتقى بإحساسه.
التحق عام 1969 بمعهد الموسيقى والمسرح ليعمق تجربته الفنية أكاديمياً ويتخرج في عام 1974، حيث زامل دفعة المعهد الدراسية وقتها، الفنان عثمان مصطفى والعازف علي ميرغني وكل من الملحن الماحي سليمان، وعمر الشاعر.
وحسب كريمته سلمى فإن أجداد الفنان محمد ميرغني ينتمون لمنطقة سقادي في شندي وقد انتقلوا إلى منطقة الفكي هاشم، وتزوج محمد من منطقة مقاصر في دنقلا وعمل بالتدريس لمدة 30 عاماً وانجب سلمى وأبوبكر وعلي ووليد وسارة، من هواياته أنه رياضي مطبوع، لعب للعديد من الفرق الرياضية في مدينة الخرطوم بحري التي استقر بها منذ فترة مبكرة، ومن مشجعي فريق الهلال العاصمي.
غنى للعديد من الشعراء أبرزهم كل من:- * إسماعيل حسن الذي غنى له اشتقت ليك، عيونك ديل. * التجاني حاج موسى وغنى له تباريح الهوى. * مصطفى سند وغنى له عشان خاطرنا. * الشاعر صلاح أحمد إبراهيم :- سهمك الفتاك. – الشاعر السر أحمد قدور:- حنيني إليك. * الشاعر حسن الزبير:- لا بتفاصلي لا بتواصلي، ولا الصابر انا ولا الباكي. * الشاعر حدربي محمد سعد:- النازلة ماشة على البحر. * الشاعر السر دوليب:- لو قدرت تغيب علي، انا والأشــواق، * ما بتقدر تتوب يا قلبي * مين فكرك ياحبيب. * الشاعر محمد عبد القادر أبوشورة:- عاطفة وحنان، احترت فيك. * الشاعر كامل عبد الماجد:- أخليك. * الشاعر صديق مدثر:- سبأ * الشاعر علي شبيكة :- شفتك وابتهجت. * الشاعر محمد بشير عتيق:- شذى الياسمين.* الشاعر عثمان خالد:- سمحة سمحة الصيدة.* الشاعر صلاح حاج سعيد:- ما قلنا ليك، لوكان عصيت.
شكل ثنائياً في الألحان مع عدد من الموسيقيين والملحنين أبرزهم كل من حسن بابكر، العاقب محمد حسن، عبد الله عربي، محمد سراج. هذا هو مطربنا البديع محمد ميرغني.
ــــــــــــــــــ
- ضمن كتاب (أعلام فنية باهرة) تحت الطبع.
hassanelgizuli3@gmail.com