توسّمت الثورة السودانية – منذ انفجارها الكبير في 19 ديسمبر 2018م – حشد الشوارع بالتظاهرات السلمية، مستخدمة إياها وسيلة أدهشت العالم كله بتحديها لترسانة السلاح. نقول أدهشت السلمية العالم لأنّ الثورات في القرون الثلاثة الأخيرة وظفت القوة المسلحة والعنف أداةً لتحرير الشعوب. ونعطي أمثلة الثورات الكبرى التي جاءت في القرنين الأخيرين: الثورة الفرنسية ، الثورة البولشفية ، ثورة فيتنام ، الثورة الصيننية ، ثورات أميريكا اللاتينية والثورة الإيرانية. كان العنف واستخدام المليشيات قاسماً مشتركاً بين تلك الثورات. اختطت ثورة ديسمبر طريق الإحتجاج السلمي. وهو طريق لا يخلو من تكلفة في الأرواح إذ يواجه الثوار غول الإستبداد المدجج بالسلاح. وقد سبقها إلى هذا الطريق ثورة المهاتما غاندي في الهند وثورة الحقوق المدنية بقيادة القس مارتن لوثر.
لكننا رغم ذلك نقول بأنّ تغيير الشارع لآليات العمل الثوري أمر شديد الإلحاح. أشرت إلى ذلك في مقال رفعته بصحيفة “سودانايل” الإليكترونية بتاريخ 18 يناير 2022م، قلت فيه: (ننصح شيبنا وشبابنا بأن الثورة التي لا تعرف تغيير آلياتها وخططها في إدارة دفة المعارك، ربما تؤخر فوزها على عدوِّها في أحسنِ افتراض!)
وهكذا فقد فاجأتنا ثورة شعبنا يوم السبت 26 فبراير الجاري بتغيير آلية التظاهر ، حين دعا جيل الكبار إلى إعلاء صوت الشارع وتغيير التظاهرة إلى مهرجان شعبي شارك فيه هذه المرة – بل تقدمه بجرأة – الآباء والأمهات. إن مليونية 26 فبراير تحت شعار (كلنا معكم) قد جددت إيقاع الشارع السلمي الثائر وهي تضفي عليه ألوان الطيف السوداني بحق وحقيقة. لم يبق فصيل مهني أو سياسي أو طائفة دينية تمثل تقاليد وروح الأمة السودانية إلا وحملت شعارها وجعلت الشارع موعدها. تأكد لي وأنا أتابع ثوار بلادي رجالاً ونساءاً، شيبا وشباباً – تأكد لي وأنا أتابعهم من على البعد- أنّ ثورة ديسمبر أخذت تخطو بتؤدة وثقة صوب النضج وإنجاز أهدافها المعلنة ، ممثلة في إقامة الدولة المدنية الديموقراطية، دولة التساوي في الحقوق والواجبات.
كان افتتاح المهرجان الخطابي الكبير في شارع الستين هو العلامة البارزة في أنّ الثورة آخذة في تبديل تكتيكها وآليات نزالها للإستبداد بالمزيد من الحشد الثوري الحقيقي لشعبنا. وبزيادة جرعات الوعي. تظاهرة 26 فبراير طفرة نوعية وإعلان يوجهه شعبنا لدولة الإستبداد وذيولها بأننا نعيش عصر الوعي وثورات الشعوب. عصر الحرية والسلام وحقوق الإنسان. وبأن هذه الثورة جاءت لتنتصر لأحلام السودانيين وقد ظلوا حقباً بانتظار مجانية التعليم والدواء وإرساء قيم الحرية والمساواة.
ولعلّ أجمل ما أبدعته عبقرية تظاهرة 26 فبراير ذلك التناغم الثقافي والسياسي الجميل بين جيل الشباب رمح الثورة وجيل الكبار الذين هتفت حناجرهم بتجاريب العمر وقد وقبضت أكف الكثرة منهم جمرة النضال في أكثر من معركة، متوسدة جنوبهم بلاط أكثر من زنزانة وقلعة سجن. جاءوا ليقولوا للأبناء والحفدة: (نحن معكم). هذا ما أعنيه ببلوغ مرحلة جديدة في النضج الثوري. وهذا ما أعني بتغيير الآليات في المد الثوري.
استوقفتني بعض اللقطات- حتى دمعت عيناي: صور الكبار عمراً وقامة وقد ازدان بهم المهرجان الخطابي أو لحظة سعيهم وسط الشباب بأقدام مجنّحة، وكأن العمر قد عاد بهم القهقرى إلى ريعان الشباب. مولانا الشيخ حسن فضل الله الذي أعاد بتصريحه عن تضامن القضاء سيرة القضاء العطرة في انتفاضتي أكتوبر وأبريل. المفكر والباحث في علم الإجتماع الدكتور حيدر ابراهيم علي ، البروف ياجي ، الأستاذ مختار الخطيب سكرتير عام الحزب الشيوعي، الأستاذة عائشة موسى السعيد ، الأستاذ علي عسيلات والمناضلة نعمات مالك وآخرون وأخريات لم استطع التقاط صورهم في الفيديوهات التي قطعت آلاف الكيلومترات لتصلني في بلاد أبقاني فيها ذاك الذي ضجت حناجر الملايين في وطني برفضه وهي تقاوم الأستبداد.
سالت دمعتي مرتين: المرة الأولى حين ردد عشرات الآلاف النشيد الوطني (نحن جند الله جند الوطن) الذي صاغ كلماته شاعر الإستقلال احمد محمد صالح أحد أعضاء أول مجلس سيادة في تاريخنا الحديث (عندما كان يجلس على كراسي مجلس السيادة أشخاص من أمثال البروفيسور التجاني الماحي والمناضل بوث ديو)!ّ
وسالت دمعتي مرة ثانية لحظة كان يغرد على المنصة شاعر الثورة أزهري محمد علي. كان الجمهور الواعي يردد معه بعض المقاطع وهو يتلو رائعته (واتلاقينا في شارع القيادة العامة). هكذا يصبح الشعر خبز الجماهير. ويصبح الشاعر عندليباً يصدح بهموم الشعوب. تحية أيها الشاعر الثائر أزهري محمد علي .. كنت صوتاً للملايين. وكنت رمزاً لمن غابوا اليوم عن الساحة التي طالما رددت وتغنت بقصائدهم: محجوب شريف وعمر الطيب الدوش وحميد والقدال وآخرون كثر. لك محبتي التي تعرف.
فضيلي جمّاع – لندن
صبيحة 27/ فبراير/ 2022
fjamma16@yahoo.com