فلان وقع بين المطرقة والسندان – تشبيه شائع لضيق الحال وبؤس المآل الحائق بمن هو محتار بين خيارين احلاهما مر، مع بروز أنياب الليث الروسي وتحديه لصلف حلف النيتو نهاراً جهاراً، تسجل حكومة الأمر الواقع الانقلابية زيارة لموسكو بوفد رفيع المستوى رأسه الرجل الثاني بالدولة، اختلف المحللون السياسيون حول جدوى هذه الزيارة التي جاءت في هذا التوقيت الزمني الحرج، لكن يبدو أن حكام السودان الجدد ليس بيدهم حيلة ومجبر اخاهم لا بطل، أو كما تقول السردية التقليدية بأن زوجة رجل الدين الفقيه ملزمة بأداء الصلاة في ميقاتها، إن بلاد ماكانت تسمى بدول العالم الثالث يصعب التكهن فيها بخلاصات الفعل السياسي، فهي بلدان بنيت السلطة السياسية فيها على التكتم والتستر والرمادية المؤسساتية، فمواطنها يعيش حالة اندهاشية مستمرة وكل يوم هو في شأن، وخيوط اللعبة السياسية تمسك بها على الدوام مجموعات طائفية وشلليات حزبية وجماعات ملائشية، تقرر في الشأن العام حسب المزاج الذي تحدده مصالحها الذاتية.
الحقبة الانتقالية الانقلابية لا يعلم احد الى ماذا ستئول فيها الأمور والمآلات، اختزلت مؤسسات الدولة في ارادة حفنة صغيرة ممن يسمون انصار تحالف القصر، اختطف هؤلاء القصريون القرار السياسي والسيادي بالبلاد واصبحوا يبرطعون ماشاء الله لهم أن يبرطعوا، واصبح مصير الشعب السوداني رهين بمصالح زمرة جديدة من الحاكمين لها اجندة محلية ودولية غير مرتبة الأولويات وتغلب عليها المصلحة الذاتية، ومن دلالات هذه البرطعة وعدم الاتساق التصريحات المتذبذبة والمتناقضة في نفس الوقت لرئيس الوفد الحكومي الزائر لموسكو حول الحرب التي شنها مضيفه على جاره، مثل هذه المواقف الحرجة والمحرجة لا تليق بدولة مثل السودان لها دور معتبر لعبته ابان التجاذبات الحادة اثناء الحرب الباردة بين القطبين العالميين، فما زالت الفرصة سانحة امام البلاد لاختيار موقف وسطي يحفظ لها ماء الوجه دون التورط في الانحياز الكامل لجهة على حساب جهة اخرى.
حالة الانفصام الواضحة الحاصلة بين الشارع الهائج والمائج ومنظومة الحكم الانقلابي، ستجعل من الاتفاقيات المبرمة بين حكومة الأمر الواقع الانقلابية والحكومات الاقليمية والاحلاف الدولية اتفاقيات ومعاهدات موقوفة التنفيذ وربما لاغية، حتى حين تغيير الوضع الآني المختل، وفي ظل هذا الوضع الاستثنائي يستحيل على هذه المنظومة القليلة العدد الحصرية الاتجاه أن ترسم السياسات الحافظة للمصالح العليا للبلاد، إلا بتسليم الشأن لأهله – الشعب – واستكمال هياكل السلطة الثلاثة المؤسسة لدواوين التشريع والتنفيذ والتقاضي، لقد فقدت البلاد هيبتها منذ فردانية الرئيس المخلوع الذي سخّر البرلمان لخدمة اطماعه الشخصية وطموحاته التوسعية، حتى وصل التدجين بأحد النواب البرلمانيين أن قدم مقترحاً بتنصيب الدكتاتور رئيساً للبلاد مدى الحياة، لقد اثبتت تجارب حكم الفرد بالسودان أن الوقت قد حان للقيادة الجماعية وأن الشلة والقبيلة والجهة والطائفة والحزب والحركة المسلحة لا تبني الوطن.
الإرث الدبلوماسي العتيق لبلادنا الذي أسست له صفوة مستنيرة من وزراء الخارجية والقناصل ومن تبعهم من أمناء الأندية السودانية بدول المهجر والاغتراب، يمكنهم أن يقوا البلاد شر الوهن الخارجي لو أن الدولة جمعتهم تحت اسم المجلس الأعلى للدبلوماسية السودانية، ومنحتهم تخويل تشخيص مصلحة البلاد في علاقاتها مع المحيط العالمي والاقليمي، وكما يقول المثل فليعطوا الخبز للخبّاز و الاخشاب للنجار والعصا (للحجّاز)، فما شان وجه بلادنا المشرق الا تقديم الرجل غير المناسب للمكان غير المناسب، وللأسف قد عكسنا هذه القاعدة الادارية البسيطة – الرجل المناسب في المكان المناسب – فانعكس اتجاه بوصلتنا الدبلوماسية والعسكرية والسياسية، فتاهت سفينتنا بين امواج اعالي البحار المتلاطمة، فامسك الربان الذي كان يقود سفينة الصحراء بالمقود الخاص بالسفينة االمبحرة فوق امواج اعالي البحار، فتمزغت الأشرعة وتهددتنا مجاهيل هذه البحار اللجية العميقة، فادمنت اجسادنا طرق مطارق مطرقة اتحاد الجمهوريات الروسية الفدرالية والسقوط المؤلم على سطح سندان الولايات المتحدة الامريكية.
اسماعيل عبد الله