في الذكري الاربعين لرحيل الشاعر السوداني الرائي العظيم محمد المهدي المجذوب رحل الشاعر في الثالث من مارس 1982 و للاشجار تاريخ الثمار
(صاحب القلم الأمين الطيب صالح لو بقي معنا و نشر أعماله هنا، لما اشتهر هذه الشهرة ولقلّ عدد قُرّائه. وأذكرك بمسألة النقد والتوزيع والقراء وجاءتنا مفاجأة الطيب صالح المدهشة من الخارج ولقد عاش التجاني هنا ومات، ثم جاءتنا شهرته من الخارج بعد حين، لقد مات مغموراً مكموداً وحين وفدت إلينا شهرته من مصر دخل الزفة، من عاشر التجاني ولم يعرف أنه عبقري؟ لا إله إلا الله، ويلوح هذا الأمر كالقاعدة فشهرة محي الدين فارس وتاج السر وجيلي والفيتوري جاءتنا من الخارج ذلك أنهم كتبوا أعمالهم في جوٍ صالح نقي يعين على نماء المواهب فتنمو فيه الأعمال الفنية وتجد من يهتم بها ويحبها ويذيعها. فإذا عادوا وعاشوا معنا سكتوا،الحكاية شنو؟! ولقد عرفت قبل زمن أن الأديب السوداني لا قدرة له على المثابرة والاستمرار ولا أشك في بطولتهم حين استطاعوا أن يكتبوا شيئاً بالرغم من كل شيء ، فإذا انصرفوا إلى غير مواهبهم مما يجعل العيش عيشاً فلن يبقى منهم إلا ما أبدعوا والحق معهم إذا شكّوا في جدوى ما كانوا يبدعون ولا يلومهم إلا من جهل. ولو شئت لضربت لك الأمثال ولكن هذا موضوع آخر). الحديث أعلاه للشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب و هو يرد على تساؤلات الشاعر الذي اختار أن يرحل عن هذا العالم منتحراً بقفزة من إحدى شواهق موسكو الشاعر المميز عبد الرحيم أبو ذكرى . هذا الحوار بين الشاعرين حوار نادر ومهم و ممتع جداً وحين قرأت هذا الحوارالذي أعطى تلك الظهيرة من يوليو في العام الثامن والتسعين من القرن الذي انصرم مذاقاً خاص، ذلك المذاق المتحالف مع متعة قراءة مثل هذه النصوص القديمة وكان السبب في كل تلك المتعة الصديق خطّاب حسن أحمد حين أخرج من شنطته الجلدية أو قُل من شنطتي الجلدية – بالمناسبة هذه الشنطة كانت تخصني وقد جئت بها من السودان للقاهرة ومن ثم استولي عليها خطّاب بعد أيام من وصوله للقاهرة، هذه الشنطة كانت هدية من مجموعة عقد الجلاد الغنائية وشنطة أخرى كانت رفيقتها للشاعر الصديق محمد محمود الشيخ المعروف بمحمد مدني والشنطة الجلدية الآن برفقة خطّاب حسن أحمد، أخرج خطّاب من تلك الشنطة عدداً من مجلة الثقافة السودانية ذات غلاف برتقالي تتوسطه لوحة بالأبيض و الأسود والغلاف من تصميم الفنانة زينب الزبير الطيب، خطّاب عثر على هذه المجلة وهو (يفرفر) في مكتبة مغمورة في شارع لاظوغلي ، التاريخ الموضوع على هذا العدد يشير إلى نوفمبر العام السادس والسبعين من القرن الماضي وسعر المجلة ( طرّادة) خمسة وعشرين قرشاً ، دارت هذه المجلة بين الأيادي لتستقر عندي وأهرب بها إلى البلكونة المطلة على شارع مصطفي النحاس بمدينة نصر بالقاهرة حيث المركز السوداني للثقافة والإعلام ، تصف المجلة نفسها بأنها مجلةربع سنوية تصدرها مصلحة الثقافة بجمهورية السودان الديمقراطية لاحظ كلمة (ديمقراطية) هنا، لا سيما أن المجلة كانت قد صدرت في زمن حكم شمولي يجافي الديمقراطية ويعبث بشؤون الخلق وقتها عسكري متسلِّط وقد لاحظت أن كلمة (ديمقراطية) قد حُذفت من اسم هذه الجمهورية السودانية إبان حكم الديمقراطية الأخير فصارت جمهورية السودان فقط ولعلنا تعلمنا من هذه المفارقة وعرفنا كيف تتمانع وتستحيل الديمقراطية لدينا إلى درجة التماهي مع النقيض تهتم المجلة أساساً بالدراسات ثم بالإبداع، رئيس مجلس إدارتها د إسماعيل الحاج موسي ورئيس تحريرها الدكتور الشاعر محمد عبد الحي وسكرتير التحرير الشاعر عبد الرحيم أبو الذكرى ومن المقدمة التي كتبها د إسماعيل الحاج موسي الذي وضع تحت اسمه هذه الصفة وزير الدولة للثقافة والإعلام ومن بعدها صفته داخل المجلة (رئيس مجلس الإدارة) ، من هذه المقدمة عرفت أن أمامي العدد صفر من هذه المجلة،إذن ها هو العدد صفر من مجلة الثقافة السودانية يعبر 22 عاماً ليكون الآن بين يدي ، أتصفحه بلهفة غريبة وأحس بنوع من ذلك الطرب الثقافي وأنا أتامل وجود الشاعر محمد عبدالحي إلى جوار الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى في تفاصيل أعباء هذه المجلة، ها هو د. سيد حامد حريز يكتب عن العلاقات العربية الإفريقية في الحكايات الشعبية السودانية، د. خالد المبارك يكتب عن المظاهر الدرامية في تاريخ التصوُّف السوداني، صالح عركي يكتب عن الآلات الموسيقية السودانية، الشاعر محمد المكي إبراهيم وقصيدة بعنوان (فرح في حديقة شوك قديم) للشاعر محمد عبد الحي ، د. محمد عبد الحي يكتب قراءة جديدة في شعر التجاني يوسف بشير تحت عنوان (الرؤيا والكلمات) وهناك دراسة بعنوان (دور الثقافة في التنمية الإقتصادية) من إعداد محمد يوسف بانقا وعبد المنعم عبد الرحمن،الشاعر عبد الرحيم أبو الذكرى يترجم من الروسية مقالاً للبروفيسور السوفيتي فالنتين أسموس بعنوان (القراءة كعمل من أعمال الإبداع) وفي إرشيف المجلة وثيقة حوار مع الشاعر محمد المهدي المجذوب أجراه الشاعر أبو الذكرى وهناك مادة عن المهرجان العالمي الثاني للفنون الزنجية والسوداء أعدها مأمون عبيد وأبو الذكرى وتقرير عن تكوين إتحاد أدباء السودان وفي مكتبة المجلة نجد مادة عن ديوان الشاعر النور عثمان أبكر (غناء للعشب والزهرة) وكتاب محمد عبد الحي (أقنعة القبيلة) وكتاب الطيب صالح عبقري الرواية العربية إعداد وتقديم أحمد سعيد محمدية. هذا العدد من مجلة الثقافة السودانية ذلك العدد صفر والذي عبر22 عاماً ليكون بين يديَ قد أهداني متعة استطاعت أن تهزم رتابة ظهيرة ذلك اليوم لاسيما و أن داخل هذا العدد حوار نادر بين الشاعر محمد المهدي المجذوب والشاعر عبد الرحيم أبو الذكرى وأستطيع أن أقول أنني حصلت على وثيقة نادرة وهذا العدد صفر من مجلة الثقافة السودانية يتيح لي أن أتساءل وبكل ذاكرة الغبن الثقافي عن حال المجلة اليوم وأذكر أنها عاودت الصدور بحياء وقد وسمت إصدارتها الأولي بعد توقف بأنه العدد الإحيائي الأول و أعلن فيه سبدرات وزير الثقافة والإعلام وقتها حلمه ان تدخل المجلة قفة الملاح ناسيا ان القفف قد اختفت وحلت محلها اكياس البلاستيك مؤكدة عصر الشح والشحتفة والكلمة (إحيائي) هي من تخريجات مُنظِّر المشروع القومي للإحياء الثقافي الدكتور أحمد عبد العال – رحمه الله – وعلى كل ، هانذا أعلن حالة طربي الثقافي وأنا أقرأ ما يقول المجذوب ( وددت لو أن القرية عادت إلى مستواها القديم على أن تكون عصرية لقد كانت القرية عاملة مستقلة الناس يزرعون ويخزِّنون كفايتهم من مؤونة الطعام، والنساء يغزلن والنساج موجود والنساء يضفرن السعف والدباغ وصانع الأحذية موجود و الخلوة والفقيه والبصير واللبن والسمن والقيم و المآثر ، الذي أعنيه هو أن تبعث القرى على أساس جديد كوحدات مستغلة لكن؟ الناس هجروا هذه القرى إلى العاصمة فامتدت وأصبحت كالمستحيلة واختلت فيها الخدمات وليس للناس فيها صفة وحكايتي الشعرية (كلب وقرية)، صوت للقرية السودانية الآن في بؤسها وارتجالها للحياة) و للنُّقاد أصحاب الذائقة المرتبكة تجاه تجليات الإبداع أهدي هذا المفهوم العميق يقول المجذوب (الرومانسية والواقعية والكلاسيكية لم تخطر في ذهني أن أكتب هذا الشعر وقد قرأت عن هذه المدارس مؤخراً وتوافقني إذا قلت إنها جاءت تسمية لشعر سبقها والشعر ليس بهرجاً وإنما هو مفتاح لكثير من الحقائق الإنسانية). ( فخ سمين حزبه أجنبية حنكلة الأصوات السوق والمأكلة لحية التيس والحناء طوى قرنيه على نيشان الملك جورج الخامس لا تغيب شمسه عن الأوغاد الأصوات السوق والمأكلة ما هي المشكلة الجماهير تراه ولا تراه غيابه حضور جاء الحمار بالإشارة عاش عاش) هي قصيدة للشاعر المجذوب القصيدة بعنوان (الزعيم) وهي من ضمن قصائد ديوانه (الشرافة والهجرة) وهذه القصيدة لها ملمح خاص في شعر المجذوب يقول المجذوب في مقدمته للديوان (كل قصائد هذا الديوان مقفّاة إلا واحدة منثورة وأخرى لا تلتزم بقافية و ليس شرطا عندي ان يكون الشعر مقفي و كتبت شعر هذا الديوان في الفترة من العام الواحد و أربعين إلى العام الثاني والسبعين القصيدة الواحدة المنثورة هي هذه القصيدة والأخري التي لا تلتزم بقافية هي قصيدة- لوممبا) وهكذا دائماً ما يتجادل الشاعر المجذوب مع الشعر بذائقة تجريبية ذات دربة محاولاً الخروج بقصيدته من القيود. (ضحكت ربة الخرافة استلقت على ظهرها ونخرت أرسلت يدها إلى هناك أنا الشاعر ضربت صدري على وطني الزائف اللحى ترجم الزقاق المئذنة نخلة مثمرة رجموا حمامنا بالحجارة كتاب الله عامل في الدائرة سألتها عن بدر قالت طردناه من الشغل زبلعي أماماً يسب الفقراء كجذوع النخل أو كما قال لا يرى إلا مرآته الأغنياء يصلون يا لطيف بيوت الله خزائن لبيك نفسي لبيك) أمامي الطبعة الثانية من ديوان (الشرافة والهجرة) التي صدرت عن دار الجيل بيروت وشركة المكتبة الأهلية الخرطوم في العام الثاني والثمانين من القرن المنصرم وكنت أود لو أن تاريخ هذه القصيدة قد سجل حتي أتمكن من متعة الإفراط في التأويل و ذلك لأن الصورة التي يرسمها المجذوب للزعيم صورة محتشدة بالتفاصيل وتتناثر فيها ملامح الخراب ويلوذ الشاعر بمرجعية تاريخية (يرقد التعايشي التونسي في أبي ركبة فرش فروته ينظر إلى رصاصة في جبينه حصانه مطرق هناك ود حبوبه الشاعر غني في الكتفية مهدية مهدية رأس المفتش الإنجليزي قافية ورأس المأمور التركي أجازه علماء غردون حبلاً الرطانة العجيبة وكشف المرتبات المهيبة والحبيبة رحى المدارس نسألها أين الطحين؟ أين زمان المطامير؟ البرق العبادي هاجر أين زمان المغاوير) في العام السادس والثمانين من القرن المنصرم حظيت بأن أتعامل مع هذا النص الشعري كمخرج وبتحريض أليف من قبل برنامج تلفزيوني بعنوان (طبول) من إخراج الأستاذة والصديقة مريم محمد الطيب ويشارك في البرنامج الأستاذ الصديق شول دينق كمعد ومُقدم ، كان البرنامج قد خصص حلقة عن المجذوب وهو شاعر يتيح إمكانية أن يمسرح شعره من حيث انتمائه للتشخيص والسرد وقد تخرج الأستاذ عبد المنعم الجزولي بعرض مسرحي هو قصيدة المجذوب (كلب و قرية) وأذكر أن قصيدته السردية (شحات في الخرطوم) قد تحولت إلى عرض مسرحي من ضمن أعمال نادي المسرح السوداني . وقع اختياري على هذا النص الشعري (الزعيم) شدتني إليه صوره الشعرية الكثيفة وقد بدأت ألاحظ وأنا أحاول أن أفكك النص المشهدية التي تختبئ وراء الصور الشعرية تلك التي كانت أشبه في تتابعها بسيناريو سينمائي ولذت بمفتاح تأويلي للدخول في عملية التكوين الدرامي للنص، كانت هذه الجملة (أنا الشاعر ضربت صدري على وطني الزائف) و استخدمت أسلوب التضاد بين ملامح الخراب وجملة (عاش عاش) التي وردت في النص مرتين ولكني كررتها بين كل وحدة وأخرى في النص المشهدي واعتمدت على تقسيمي للوحدات على البناء المعماري للنص، نفّذ معي هذا العمل الفنان المسرحي أحمد البكري ومجموعة كبيرة من أصدقائي الممثلين أذكر منهم جمال سوزي وديرك الفرد وآمنه أمين ولأني كنت أعرف أن هذا العمل للتلفزيون اهتممت اهتماماً خاصاً ببناء الكادر بحيث أمنحه طاقة تعبيرية عالية وأذكر أن مجموعة الممثلين لم استخدم منهم سوى أحذيتهم المتنوعة وهي تقطع وتدهس وتحاصر الشاعر الذي هو نفسه الراوي وهي تمارس ذلك الهتاف الزائف (عاش عاش) هذه التجربة مع هذا النص الشعري (الزعيم) مكنتني من أخبر وأختبر قدراتي في كيفية تحويل نص شعري إلى جسد درامي مرئي وهي من التجارب التي أفخر بها ولم يشفع لي هذا الفخر لأن برنامج ( طبول) تم الإعتداء عليه وأُوقف هذا البرنامج ولم تشفع له أيضاً الحالة الديمقراطية التي كانت تحاول أن تتعايش معها البلاد (الأفيون والسماء القريبة الديك الأعمى إذن الجرائد ثقيلة الزينة الذهب في المعاصم الأزمة المالية في الأنوف اشتفيت لو كان في حب شفاء جبت حتي الدوار جلسنا في دار الندوة أنزلنا الراية تبكي القرعة المنقوشة البطينة النقار ناح أيام الجزيرة يا حليله أيام الضريرة يا حليله الخمر مطفأة مضيئة عميت منا البصيرة ضحكنا وبكينا جاء الصباح بالأعذار (عاش عاش) قصيدة (الزعيم) للشاعر المجذوب نص يُعري الواقع السياسي ويفضحه ويبقى هذا النص مشيراً إلى زعيم نموذجي لا زلنا نراه في المشهد السياسي الراهن وهناك قصيدة أخرى في نفس الديوان لها تماس مع قصيدة (الزعيم) وهي بعنوان (عاش الزعيم) وهي قصيدة قصيرة يمارس فيها الشاعر سخريته اللاذعة تجاه موضوعة الزعيم (صاحوا يعيش فصحت عاش الظلم في وطني الغبين يعلو المنابر كل مأفون يقول ولا يبين تسري به سيارة غراء واضحة الجبين تمضي وتلقي بالتراب على وجوه العابرين حيا أبا الجعران إعجابي له خلق متين يتزوج القمراء ضاحكة ولكن بعد حين و أراه يجترف المزابل بالشمال واليمين و أراه أجدر بالقيادة من زعيم العاطلين حيا أبا الجعران تقديري و حيا العاملين) وضرب المجذوب صدره على وطن زائف وكان يحلم بأن تستحدث القرى و يتحسر على هجرة الناس منها إلى المدن وها هي المدن قد تريفت وتحاول أن ترتجل الحياة (يا دامر المجذوب لا أنت قرية تبدو بداوتها ولا أنت بندر) ترى ، هل يحق لي أن أتساءل :أين مجلة الثقافة السودانية؟، بل أين الثقافة السودانية؟ ، أتساءل وأعرف إنه لا مناص من أضرب أنا صدري على وطن زائف .