التلميذ القادري ، ثم المقدّم، الحاج عبد الباقي ود قاسم . الرجل المزارع البسيط جدا ، والذي كان يحرث أرضه برضا وانتظام ودقة ، ويشارك إدارة المشروع في الإدارة في وظيفة الصمد ، أي رئيس المزارعين . والمقدّم رتبة صوفية ، يمنحها الشيخ للملتزمين الطريق في شتى الأنحاء ، فيقيمون الذكر ، وما زلت أذكر النوبة يضربها الشباب أمام بيتنا كل خميس ، يسهرون ذاكرين حتى ننام نحن الصغار فيحملوننا نياما إلى داخل البيت دون أن نحس بضجيهحم وكريرهم ، الله ، الله ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
يقول انه درس بالخلوة بالقرية ، وقد كان الشيخ ضريرا يدعى ود أبو سوالف . قال حفظنا على يده قصار السور ، وتعلمنا الكتابة والقراءة ، لكن غالبيتنا لم يتعلم شيئا يذكر ، فقد كانوا يستخفّون بالشيخ لأنه لا يراهم وهم يمارسون الشيطنة . ثم انتقلنا إلى طيبة الشيخ عبد الباقي ، وهناك قرّبنا الشيخ كثيرا ، فنحن من أهله وعشيرته العركيين ، فأخذنا عليه الطريق ، وتعلمنا منه الكثير.
ويغضب مني كثيرا وهو يراجع معي ما درسته بالمدرسة الأولية في سنتي الأولى ، فيسألني : الحرف ده شنو ؟ فأقول أ أسد ، فيرد علي : قول ألف . وأرفض ، فيقول والله قرايتكم دي ما نافعة . ثم نتقدم قليلا ونتعرّف على حروف المد ، فيسألني : اقرا ده . فأقرأ باء وأنا أمد مدّاً ظاهرا . فيقول : قول باء جاب ألف ، بو جاب واو ، بي جيب ياء . ، فأرفض . فيردد ، والله دي مصيبة ، دي قراية شنو دي ؟ وأول كتاب اطّلعت عليه في بيتنا هو ديوان أبي شريعة في مدح المصطفى ، زكتاب دلائل الخيرات ، وكتاب الشيخ الأمين الناسخ ، العرف المنشوق في تاريخ سكان معتوق . وكان يزودني بمجلة الصبيان ، ثم مجلة هنا أم درمان . وكان دائما يسألني عما استفدته من المجلة بسؤاله : أها قريت المجلة ؟ فيها شنو ؟ واشترك بجريدة الجزيرة ، وكانت تصلنا بالبريد عبر المكتب الزراعي ، وهي على ما أعتقد شهرية أو نصف شهرية .
ومنذ تعرفت على أبي ، تعرّفت على ديوانه . وقد كان غرفة صغيرة في الستينات من القرن الماضي ، ثم بدأ يكبر شيئا فشيئا ، يؤمه الضيوف من الغاشي والماشي . وكان يزوره الكثير من الأصدقاء والأهل والأقارب لمجرد السلام والأنس ، وكان يرد الزيارة بمثلها . فيقول أنا ماشي لي صاحبي فلان . فتقول أمي : أها إن بتكوس عندو ، شوف الطلقة دي . فيرد مبتسما : طوّلت منّو ، واشتقت ليهو ، ده أخوي في الله .
وعندما حججنا سويا في العام 1983 ، وهي حجته الثانية ، تحدثت إليه ونحن في مكة عن أن مصاريفهم زادت ، وأنا أتحمّل الكثير من الضغط بسبب الزيادة الكبيرة في المصاريف ، وكنت أشير إلى الديوان ومصاريفه . فردّ علي ردا أسكتني به حتى رحيله من هذه الدنيا . قال لي : أنا ضيوفي قادر عليهم ، وهم ما دايرين مني غير البقدر عليهو ، لقمة بملاح وللا موية ، وعنقريب يبيتوا فوقو ، بس أخوانك ضيوفهم هم القاصّين ضهرك ، دايرين بيض وكبدة ولحم . ثم قال لي : يازول البتقدر عليهو سويهو ، والمابتقدر عليهو خليهو ، ونحن لمّا عمك أحمد اتوفى الناس قالوا بنموت من الجوع ، بس ربنا سخّرك إنت وبارك فيك ، وأديتنا أكتر من الكان بيدينا ليهو عمك أحمد الله يرحمه ، دحين يا ولدي كان داير تدينا ربنا يبارك لك ، وكان ماك داير نحن الله كريم علينا ، بس أنا ديواني ما بقفلو ، وبيتي ما بسدّو .
حكى عمي سعيد : قال جوني ناس بالليل ، لوري مليان تب ، نسوان ورجال ووليدات . قالوا تايهين ، ودّروا الدرب ، وهم ناس سيرة معاهم عريس . نزلناهم وفتحنا ليهم الديوان ، وجبنا الموية بالجرادل ، ومشيت صحّيت أبوك وأنا حاري السنة ديك عندو بهايماً سمحات . قال لي أمشي الزريبة شيل ليك خروف ، أضبحو ، وصحّي البنات يعوسن الكسرة ، وأنا جايي عليك هسة . حتى قال لي ، أن الحلة كلها شعرت بالضيوف ، وحركتهم ، وكل زول سوّا البيقدر عليهو والديوان اتملا أكل ، ولما خروفنا نجض جبناهو لحم بس عشان الديوان كان ملان كسرة .
ثم عندما كنت طالبا بالستة الثانية أسكن البركس ، جاءني قريب لي ، وطلب من الذهاب معه إلى الدروشاب ، لنتعرف على أسرة يريد أن يتزوج منهم . ذهبت معه ، برفقة أحد زملائه بالعمل ، وكانت الدنيا بين العصر والمغرب . دخلنا بيتهم نحن الثلاثة ، وكانوا ينتظرون أن يأتيهم عدد كبير من أهلنا من الجزيرة ، فرفضوا أن يضيّفونا ويستقبلونا ، واعتبروا ذلك أمرا غير كريم . ودارت حوارات بين قريبي ( العريس ) وبين أهل المخطوبة ، ولم يصلوا إلى شيء . وجلست أنا بعيدا عن هذا الحوار لأنني أحسست بالتشنّج . فجاءني رجل كبير يستند على عصاه ، فجلس أمامي وسلم علي ، وسألني : إنت من الضيوف . فأجبت : أيوة . فسألني : أهلكم من وين ؟ فقلت من الجزيرة : فقال : وين في الجزيرة ؟ فقلت نحن من غرب الجزيرة . فقال : ياتو بلد ؟ قلت : من معتوق . قال: معتوق السوق وللا الحلّال ؟ قلت :نحن من عجوبة . فسألني مباشرة : إنت ود منو في عجوبة ؟ قلت : ود عبد الباقي ود قاسم . فسألني عن والدي ، وقرابتي بالعريس . ورددت عليه . فنادى أولاده ، إذ العروس حفيدته ، فرفضوا أن يتراجعوا ، فنهرهم نهرة قوية ، وقال لهم : يا مطرطشين ، ما بتعرفوا الناس . تعالوا اسمعوا كلامي . الوليد الصغيّر ده يسوى قبيلة . ده ود عبد الباقي ودقاسم ، الراجل الكريم ، كان جيتو نص الليل بيكرمك . فهدأوا وجلسوا متحلقين حولنا ، والرجل يحكي لهم زياراته وتردده على بيتنا حيث كان يعمل بالتجارة عبر الجزيرة ، وينزل ضيفا على والدي كل ما جاء إلى قريتنا . ثم قضينا الأمر ، وانطلقت الزغاريد ، وهشّت الوجوه ، وحصدنا الابتسامات .
ابوي سيرتو طويلة ، بس خليكم قراب ، بنجيكم تاني .