يسود في أوساط الباحثين عن علاقة العرب بالنوبة أن نظام الحكم النوبي كان أموياً ، وذكروا أن النظام الأموي يقوم على توريث أبناء البنت الحكم .. وهذا يعني أن يتحول الحكم من الملك إلى حفيده من ابنته دون النظر الى زوج البنت .. وفي الوقت نفسه متجاوزاً الأبناء ، وأحفادهم من الأبناء . ولا أملك ، فيما بلغني خبره ، نماذج لهذا الوضع في واقع ملوك النوبة .. ولا يمنع هذا أن بعضهن حكمن لأسباب قدرت في حينه .. ولكن من حقنا أن نسأل هل كان زواج النوبيات – ولاسيما الأميرات أو الكنداكات – شائعاً .. واعتمد في هذا على ضعفه في الاستدلال أن الناس حتى وقت قريب كانوا يتهمون النوبيين بالعنصرية ؛ فلا يزوجون بناتهم من خارج الأسرة أو العائلة !! المشكلة أن بعض الباحثين ربطوا النظام الأموي بتعريب السودان وأسلمة النوبيين ، فقالوا إن العرب استفادوا من نظام التوريث فأصهروا إليهم ، فأصبح أبناؤهم من النوبيات حكاماً . علما بأنه لا يتوقع أن يتم التعريب والأسلمة قبل دخول العرب في بلاد السودان بعد الإسلام وتحديدا كما ذكروا بعد صلح البقط ، إذا تجاوزنا قولهم أن الصلح كان تاريخا لتدفق العرب على السودان .. وهو ما يفيد بداهة أن دخولهم لا علاقة له بالنظام الأموي أو الأبوي .. إذ لم يكونوا في حاجة إلى معرفة طبيعة النظام النوبي ، وهم منتصرون ، إن كان الأمر على ما ذكروه من تاريخ الصلح ومحتواه .. كذلك تجد إشكالاً آخر في أن النوبة لم يتحولوا إلى الإسلام إلا بعد مضي أكثر من سبع قرون مما ذكروه تاريخاً للصلح ، أي منذ سنة 31هـ ، وخلال هذه الفترة لم يتعرض العرب المسلمون للنوبة ، بل على العكس من ذلك تجد وصفا دقيقاً لرحلة ابن الملك النوبي لمقابلة الخليفة المأمون في بغداد، ممثلاً للملك ، وتصويراً لأسلوب معاملتهم له ، وتعديلهم لأجله أو نزولاً لما قدمه لهم من مبررات منطقية ؛ فجعلوا دفع البقط كل ثلاث سنوات بدلا من كل سنة .. وهذا الخبر يؤكد اعتماد ملوك النوبة على أبنائهم وتكليفهم بأعباء سلطانية .. وأورد المقريزي في خططه صورة واضحة المعالم لسيطرة النوبة على حدودها ، وأنه لا يسمح بمرور أي شخص في معبر ( جنوب أسوان ) إلا بعد إجراءات دقيقة .. وهو ما يؤكد الاستقلال السياسي التام للمملكة .. وأوردت مصادر تاريخية قصة وفد من وجهاء بني أمية عند مرورهم بالنوبة في طريقهم للأندلس فرارا من بطش العباسيين ، فزارهم ملك النوبة في مقرهم ومنحهم ثلاثة أيام للإقامة في مملكته .. وفي الوقت نفسه لم أجد اسم امرأة حكمت النوبة منذ البعثة النبوية ، مما يؤكد أن تولى بعض الكنداكات للسلطة – إن ثبت ذلك – كان في دهور سحيقة ، كما لا نكاد نجد نصاً عن لجوء المملكة لتولية السلطة لحفيد الملك من ابنته. وإذا ثبت كما يقولون أن بعض النساء النوبيات حكمن المملكة ، فما كانت حاجتهن لتولية أزواجهن أو ابنائهن من غير النوبيين للمُلك !! ، مما لاشك فيه أن العرب ( زوج ابنة الملك أو ابنها منه) لو وجدوا فرصة للحكم لحولوا المملكة عصبية للنظام الأبوي الذي يتبعونه ثم يتحول الأمر من بعدهم لأبنائهم .. ولو رجعت إلى تاريخ بني العباس لتبينت أن كثيراً من الخلفاء كانوا أبناء أمهات ، أي أن أمهاتهم لم يكن عربيات ؛ فأم المعتصم تركية وأم المأمون فارسية ، ومع ذلك ظلت الخلافة عربية .. فهل أجد من يقتنع معي بأن تاريخنا يحتاج إلى نقد علمي .. ولك أن تسمها إعادة نظر لتاريخنا وفق ما استجد من معارف ومعلومات ..