سألت في كلمة ماضية لماذا يطلب شعب في الريف مثل اللحويين أن تكون له نظارة؟
قلت لو أحسنت صفوة الحداثة فهم هذا المطلب الملحاح لما جرؤت على قولها الجهلول الذي جعل من الإدارة الأهلية في خطابها يوم السعد للريف السوداني، وصمام أمنه، وكاب سلامه. فانطوى المطلب على غبينة هذه الجماعة، التي بلا دار أو حاكورة تاريخية، من وضعية “التبع” المهينة للجماعة صاحبة الدار. فلم يتمتع اللحويون في مَثَلنا هنا بدار تاريخية، وساكنت الشكرية منذ قرن خضعت فيه لعلاقة التبع. وهي علاقة استعمار داخلي، لو شئت، تُفرض فيها على الجماعة التبع الضرائب بينما تجردها من صوتها السياسي حتى في نطاق عيشها اليومي. ولذا كان مطلب القبيلة التبع للنظارة، بدار أو بدونها، بمثابة “حركة وطنية” للخلاص من استعمار مالكي الدار.
تعارفنا على وصف وقائع معارك الريف التي تتفجر حول مطلب النظارة ب”النزاع القبلي”. وهذا دمغ له لا علماً. وفيه سوء ظن الحداثي ب”العقل الرعوي” الذي لا ننتظر منه سوى الاصطراع حول ما يسوى ولا يسوى. وهذا الدمغ هو ما أبعدنا عن العلم بحقائق ما أطلقت عليه “بولتيكا النظارة”. فقبلنا نزاعاتها ومقاتلها كأمر واقع لا عاصم منه. وتواضعنا في مركز الحكم على طقس الصلح القبلي ترياقاً للنزاع القبلي نرتكبه من فوق جهل عظيم به، بل وحزازة ضده. وسنعرض أدناه لبولتيكا النظارة وضحاياها في نزاعات عرب تشاد والمساليت، والسلامات والهبانية والفلاتة، الرشايدة والهدندوة، والفلاتة والهبانية، والكواهلة والبطاحين، والحباب والبني عامر، والمعاليا والزريقات.
عرب تشاد والمساليت
في بولتيكا النظارة قاعدة عامة وهي أن القبيلة التبع قد تنتهز فرص السياسة في المركز للخروج من ربقته. ونضرب مثلاً لتحيّن التبع هذه الفرص بما جرى في دار المساليت بدارفور. فقد اغتنمت الجماعات العربية التابعة، وهم المهادي والثعالبة والحوطية، سياسات حكومة الإنقاذ، التي عبأت بها العرب الموثوق بهم لخوض حرب الجنوب، ذريعة ينتزعون بها حق الاستقلال عن القبيلة السيدة صاحبة الدار (الحاكورة) وهي المساليت. وقد توسل هؤلاء التبع إلى غرضهم بقانون الحكومة المركزية الذي استرجع نظام الإدارة الأهلية في 1995 بصورة إمارات.
وكان هذا الاسترجاع وما ترتب عليه هو منشأ النزاع الذي وقع في دار المساليت بدارفور وقاد إلى حرب بين العرب والزرقة منذ ذلك التاريخ. فقد أقام هؤلاء العرب لسنوات في كنف المساليت تبعاً بحسب الأعراف الملزمة للحاكورة. وبعد عودة تنظيم الإدارة الأهلية منحت حكومة الإنقاذ هؤلاء العرب سلطات وصلاحيات لا تقع إلا لمالك الحاكورة، وهم بلا حظ منها. وزاد الطين بلة أن الحكومة لم تتفضل بمناقشة هذا الأمر مع السلطان و”الفرش”، أي جهاز المساليت الأهلي.
وقد دفع ذلك المساليت الي تجييش دفاعهم القبلي مستعينين بالمعارضة الشادية. وقد دعمتهم هيئة شوري المساليت. وحين قيل لسلطان المساليت نجعلك أمير الأمراء قال لهم “هذا مقام ابني الأكبر فكل من أبنائي أمير.” وبعد الإفراز دعا ديوان الحكم الاتحادي لجنة لتتدارس أوضاع تجديد الإدارة الأهلية. وكان جري حرق بعض بيوت المساليت خلال النزاع. ولما اجتمع مجلس الصلح متأخراً في أغسطس 1996 لم يناقش حتى مسألة الأمارات. بل جاء في بيان الصلح ما أوحى للمساليت أنه أضحى للعرب قسمة في الدار في مثل قول البيان: “رعاية مساواة في الحقوق والواجبات سلطة وأرضاً وماء وكلأ” . وهذا نص من شأنه أن يمنح العرب حاكورة ليست لهم أصلاً. وتشدد الطرفان: العرب حول ما نالوا والمساليت حول ما فقدوا. وأصبح للنزاع منذ ذلك الحين طابعاً عرقياً بين العرب والزرقة.
وكانت من اسقاطاته المشروعة توجس ساد بأن الحكومة قد وجهت محافظيها إلى طرد الزرقة وإحلال العرب مكانها في ما عرف بالحزام العربي. والمقصود به احتواء الزرقة وقطعها عن صلتها بتشاد وغيرها لأن ولاءهم للبلد مشكوك فيه. وانتهي مؤتمر صلح لاحق في نوفمبر 1996 انعقد بعد تفاقم القتال إلى “الإبقاء علي الأمارات القائمة دون ربطها بالحواكير.” ولم ينصع العرب لذلك لأنهم لم يريدوا التفريط في مكتسبهم في الدار بينما انتظم المساليت في “جبهة تحرير دار المساليت”. وفشا منذ ذلك الحين الثأر بحرق القرى إلى يومنا.
السلامات والهبانية والتعايشة
حصل السلامات على النظارة في ٢٠١١ في خصومة مع التعايشة والهبانية. وجميعهم من عرب السودان. ومن رأي خصوم السلامات في الأمر أنهم نالوها لدورهم في دعم حكومة الإنقاذ في حروبها في دارفور. ويقولون أن سكن السلامات الأصل هو أم دخن وأم تيمان في تشاد على الحدود القريبة من السودان. وجاؤوا إلى السودان في هجرات اتصلت من ١٩٤٥ إلى ٢٠٠٠ . وكانوا حتى ١٩٧٩ يحصلون على الجنسية باسم قبيلة التعايشة. كما تداخلوا كذلك مع بني هلبة والهبانية في داريهما. ونشأت لهم عموديات مما يعرف ب”ربط الأهل” يديرون شأنهم في دار هي حكر لهم ولا حق لهم فيها. ويسمون بهذه الصفة “أكالة” ، أي أنهم ينتفعون من ثمار دار لا سلطان لهم عليها. وتعاورتهم حروب مع التعايشة بين ١٩٧٩ و٢٠١١ طالبين نظارة توطنهم على أرض. ولهذا الغرض بايعوا الرئيس البشير لدفع هذا المطلب. وقاتلوا ضد التوربورا و”الزرقة”. ولكنهم تحولوا هم أنفسهم في ٢٠٠٨ إلى حركة مسلحة للدفع بمطلبها للنظارة. ثم انضموا للحكومة كحرس حدود في نهاية الأمر. واستأثروا خلال هذه المدة بمنطقة أبو جرادل وسموها الأندلس. ثم خصصها والي غرب دارفور دارا لهم مع النظارة في ٢٠١١.
نقف هنا لنواصل عرض بعض حركات المطالبة بالنظارة التي اقتتلت فيها الأطراف قتالاً مراً اضطر الحكومة أحياناً لاعتقال الزعامات القبلية، حكماء الريف في قول عبيط لبعض الحداثيين، التي من وراء المعارك.
IbrahimA@missouri.edu