حين وصلتُ إلى تلك البلدة التي تقع على جزيرة نائية، وسط مجموعة من الجُزر الصغيرة، باحثاً عن ذاتي التي لم أجدها في موطني، كانت الشمسُ الملبدة بالغيوم طوال الموسم قد انحنت معلنة المغيب.. حاولتُ إيجاد مأوى يواري سوءاتي ويقيني شر أبناء الليل وبناته قبل أن تلتهمني خياشيمُ الظلام، لكن يبدو أن حظي لم يكن كافياً لبلوغي تلك الأمنية. بدأ التعبُ يغرس أنيابه على جميع مفاصلي بعنف، فخرّت جسدي جالسةً، ووجدتُ ظهري مسنداً على إحدى الجدران التي تنبعث منها روائح بول الخنازير واليرابيع.. بدأت عيناي تتابع حركة المارّة باهتمام وقلق كبيرين، غير مباليتين بما أثارتها تلك الأقدام المهرولة من غبار. العمال ،الموظَفون، الباعة المتجولون، النشالون، المحتالون، الجزارون، رجال الدين، بائعات الدّكوة، و ملّاك الحمامات، كلهم كانوا يرمونني بنظرات ريبةٍ واستغراب، بينما يتمتم أكثرهم بكلمات مبهمة المعاني، لكن تعابير وجوههم توحي بأن شراً ينتظرني..لعل لون بشرتي المعتجن بماء الليل قد أفظعهم. انفض سامر الجميع، فعادوا إلى مساكنهم هرعين، أدركتُ في الحال أنهم يخشون أن تدهسهم حوافر خيل الليالي الحالكة، أو هكذا بدت لي… كنتُ لا أزال غير متأهب للتحرك من مكاني، ليس لأنني لا أخشى شياطين الظلام وأشباحها مثلهم، لكن لعدم معرفة أين سأذهب! أُغلقتِ الأماكن والمنازل في عجالة، واختفى الجميع… لم يتبقّ حولي سوى قطيع من الكلاب الضالة التي أخذت تصطرع حول قطعة عظمٍ رطبة، بجانب عشرات من القنافذ التي تبدو كما لو أنها في مهرجانٍ سنوي لتخليد ذكرى واقعةٍ ما… أسدل الليلُ إزاره فوق رأسي بحِنيّة، واختفت تلك الأصوات، ما عدا صوت أمعائي التي أعلنت الثورة ضدي وضد كل من حولي وحولها، فأخذت تهتف و تهاجم أجزاءَ مختلفة داخل البطن وخارجها، ولم تجد كبير مقاومة حتى استطاعت تحرير مناطق متفرقة من جسدي رافعة عليها أعلاماً رمادية اللون.. واحتفلتْ. حاولتُ تلبية مطالبها بالبحث عن مطعمٍ أو حتى بقايا طعام من آنية النفايات التي سبقتني إليها مخالبُ قطط جائعة ، لكني عدتُّ خالي الوفاض.. فهدأت الثّورةُ، واستسلمتُ لنسيم النوم القادم للتو من جهة النيل المظلم، فنمتُ. لا أدري كم لبثتُ… يوماً أو بعض يومٍ… لكن ركلة قوية على رأسي جعلتني أستيقظ هلعاً! كان الظلام لا يزال يسيطر على كل شيء، لكنّ حضور الوحش الذي قهر حتى الظلام، جعله يبدو كما لو أنه هرب ليلحق بسكان تلك الجزيرة داخل دورهم مستجيراً من بطش ذلك الوحش المرعب! وحشٌ أبيضٌ كبير ذو ساقين طويلين، تنتصب فوقهما جثةٌ لا تقاس بحجم البشر… وحش يقف أمامي، يحدّق فيّ بعينين تتوقد لهباً لتضيئ المحيطَ شعلتُها، يخاطبني بلغة أشبه بالهمس الصاخب..لم أفقه منها سوى كلمة :” دمممممم… دووووم..” التي تكررت عدة مرات. وقفتُ أمامه كالأبله ابتلع ريقي بشكل لا إرادي، تسلل العرقُ فسقى جذور شعيرات رأسي وإبطي، و…. خِلتُ نفسي في حلمٍ، لكن الصفعة التي تلَت كلماته أكدت لي بأنني أمام ملك الموت الذي لطالما سمعتُ عنه من أفواه الواعظين منذ الصغر..حسبته جنيّا خرج للتو من أعماق البحار، فتلوتُ بسرعة بعضاً من التعاويذ، لكنه لم يشأ الاختفاء… استل شيئًا لامعاً أشبه بسواطير عصابات “تسع طويلة”، أو سيوف جماعات “الياكوزا” اليابانية، فحاول ضربي، لكنه أخطأ الهدف، فنزلت الضربةُ كالصاعقة على الجدار الذي خلفي، فانهد على رأس كلينا… فكرتُ في التفاوض معه.. لكن بأي لغة، وأي بروتوكول!؟ قلت محدثاً نفسي بصوتٍ مسموع: “لا شيء أمامي سوى الهروب..” نعم، إذا لم تكن متأكداً من هزيمة وحش، فمن الحماقة أن تستلقي أمامه أو تحاول مواجهته وأنت أعزل. فاجأني بقهقهة مستفزة، واستأنف السير نحوي بخطى متثاقلة، كسجين أثقلت الجنازيرُ ساقيه. في الواقع لم أكن متأكداً من ضمان نجاتي إذا ما حاولت الفرار… فجأة خطرت لي فكرة، فملأتُ كفي حفنة من التراب ونثرتها على وجهه، تركته يتخبط يمنة ويسرة، محاولاً الخلاص مما ألمّ به.. وسقط السيف، فاغتنمتُ الفرصة وأجهزتُ عليه وأشبعته ضرباً وطعناً بآلته الحادة اللامعة.. لأدعه يفرفرُ ويخور كالثور أمامي… فعدلتُ عن قرار الهروب وبدأتُ أجول حوله، اتفحّص هذا المخلوق الذي يشبه الآدميين، اقتربتُ منه أكثر، فجاد عليّ برفسة ألصقني على الحائط الذي يبعد عنّا عشرين متراً.. فأغمي عليّ… لا أدري كم لبثتُ..هل عاماً أو بعضَ عام. لم أعي بنفسي إلا وأنا محمولٌ على الأكتاف وسط ابتهاج وأهازيج من أهالي الجزيرة أجمعين، ليتضح لي لاحقاً أن ذلك الوحش كان آخر فرد من سلالة آكلي لحوم البشر الذين حلّوا بتلك الجزر منذ عهد الشدة المستنصرية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، حينما جفّ النيلُ، وأكل الناسُ بعضُهم بعضاً.. وعندما عاد النيلُ، عاد الناسُ إلى طبيعتهم، بينما استلذ آخرون لحم البشر فصارت وجبتهم الرئيسية، ولما كثرت عليهم الحملات التطهيرية، هربوا إلى كهوف الجبال القريبة من الجزر، الا انهم انقرضوا لاحقاً ولم يتبقى منهم سوى واحد.. لكنه كان أشدهم بأساً وأكثرهم فتكاً بالبشر، لدرجة ان جعل الجميع يعتقد بأنه لن يموت ما لم يثأر من جميع الجنس البشري لأرواح أسلافه…فالْتَهَم ربع سكان الجزيرة! كان في معظم الأحيان يكتفي بأكل الأكباد والأوراك وسمل العيون… ثم يعود إلى مخبئه، ليعاود الكَرّة في اليوم التالي بضحايا جدد. لكن مات أخيراً بتلك الطعنة التي لم أكن أدرك حينها بأنها ستكون سبباً لخلاص الملايين من البشر. في وسط الزحام اقترب مني أحدُ المسنين وتوجه إلى بالسؤال: ” اليوم تَخَلّصنا من آخر سلالة وحوش آكلي لحوم البشر.. لكن حلّ محلَّهم آكلو قلوب البشر حتى ملأوا الجزيرة والجزر المجاورة.. فمتى ستخلصنا منهم يا بُنيّ؟” _ أجبته: “لا أدري…لكن حتماً سنعبر.”