(ثمّةُ أنـثى قـمـريةٌ متلألئةٌ ترفلُ في حُلةٍ
مِـن أقحـــوان فلا يكتـرث الـنـادلُ لارتواء
القهوة ، ولا المصوّرُ في غيبوبةِ اللحظة
لا تلتـفـت القهـــوةُ ولا الملاعـق إليهِما . .
ولن ينتظر السُكَرُ أن يذوب بعد أن تفترسهُ ملعقةٌ ،
بل يكفي أن تهمس عيناكِ ، فـيأتي المذاقُ سُكّريا
لن يغتابنا الوقتُ ، إذ انتِ التي ستحدّثينه
بما جرَى في اللحظةِ الأخيرة..)
شاعر القصيدة السمراء
هي بيروت المدينة التي برغم جراحاتها المتلاحقة، تحتـشـد زواريبها وشوارعها وأزقتها بتنوّعٍ في المشارب، وباختلاف في المواهب، لا تجاريها فيهما مدينة أخرى. تتقاطع أسماء الشوارع والطرقات فيها، بمثلما تتقاطع وقائع تاريح المدينة في تجلياتها السياسية والثقافية . . تجد شارع لـ”مدام كوري” ينزل بك إلى “شارع نزار قباني”، ليس بعيدا عن “الروشـة” في كتف الساحل الساحر. يأخذك “شارع جمال عبدالناصر” إلى شارع متفرّع بإسم “أستراليا” ، وآخر بإسم “الفريد نوبل”، وأبعد من ذلك شارع “بشارة الخوري” الرئيس وليس الأخطل الصغير الشاعر.. ولربّما له شارع آخر بإسمه في مدينة لبنانية أخرى. .
ينبض قلب تلك المدينة الأنثى، بمحلاتٍ للسّمر السياسي والثقافي والاجتماعي. إذا وقفتَ على دارٍ للكتب ، رأيت قبالتك محلات للموضة والأناقة. ثمّة صالات للفن التشكيلي تلاصق صالونات التجميل. المسارح ودور السينما تقابل المقاهي والمطاعم العربية والأجنبية: “كنتاكي” هنا و”ناندوس” هناك. تجد للبيروتيين احتشاداً في مقاهي “كوسـتا” و”ستاربكس” و”كنـتاكي” و”بيتزا هوت” . المكتبات تلمع واجهاتها لمعاناً باهراً، بالكتب والمجلات الزاهية الألوان والأجهزة الالكترونية، الناطقة منها والبكماء . هي بيروت . هذه مدينة تؤلف وتطبع وتقرأ. هنا شارع “الحمـرا” بكلّ جواذبه، وبكلِّ انعطافاته إلى يمينك أو على يسـارك، يقودك – إنْ صوّبتَ مُتّجهـاً إلى أطرافه الساحلية –إلى شارع “بلـيس”، فتتلقاك بوابات الجامعة الأمريكية في بيروت، و”بليس” هـو مؤسّسها في ستينات القرن التاسع عشر الميلادي ، يزيدها التاريخ ألقاً وإبهارا. تحدّث عن تاريخ وإرث قديم . جاءها مبتعثاً من السودان شخصاً ميـّزه التاريخ، إذ رفع علم استقلال بلاده في يناير من عام 1956م، هو الزعيم إسماعيل الأزهري. ثمّة عبقريّ آخر إسمه معاوية محمد نور جاء من السودان، أول ثلاثينات القرن العشرين الميلادي ودرَسَ فيها الأدب الإنجليزي والنقد ، وعلى نفقته الخاصة. ألهمت سيرته “شاعر القصيدة السّمراء” رواية عنه، عنوانها : “نـور : تداعي الكهرمان”. رفدتْ الجامعة الأمريكية في بيروت النخبة السودانية ببعض نجومها اللوامع.
تلـك بيـروت . . في الحيّ القريب من ساحل المتوسط ، تجد جامعة أخرى أكثر شباباً إسمها الجامعة اللبنانية ، وتقع بعض مبانيها العتيقة في قلـب حيّ “قـريـطـم”. ذلك مقام أسر قديمة وعريقة : آل “الصلح” وآل |الحريري ” وآل “الداعوق” ، وأسر أخرى لكبار رموز أهل السنة ، لكن ترى بينهم بعض أسرٍ ذات صيْتٍ ورموزٍ من المسيحيين ، تشاركهم السكنى، أكثرهم من طائفة الموارنة وبعض الروم الأرثوذكس. .
كنتُ على أيّامي ممثلاً لبـلادي في لبنان بين 2007م و2009م، أداوم على تلبية دعوات بيروت لي للمشاركة في جـلّ تلك الفعاليات السياسية والأنشطة الثقافية، من ندوات سياسية وحفلات تدشـين ومعارض كتاب ومعارض تشكيلية وأمسيات موسيقية، ممّا تزدحم بها نهارات وليالي تلك المدينة الأنثى . هيَ مشاركات قدّرتُ أنها تعينني في توسيع علاقاتي الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتطلبها ممارسة مهنتي في بيروت.
كثيراً ما كنت أشارك بالحضور في ندوات راتبة في الجامعة اللبنانية للعلوم والتكنولوجيا ، يديرها صديقٌ لي شاعر ألمعي إسمهُ “هُنـري زغـيب” ومحاضر في ذات الجامعة، كما هو عضو ناشط في جمعية الأخوة اللبنانية السودانية في بيروت . وإسم “زُغيـب” عربي محض مشتقٌ من الزّغـب، وهي الشّعيرات الصّفراء من ريش الفرخ، كما تشرح بعض القواميس العربية. لطالما حرص صديقي “زُغـيب” أنْ أشارك بالحضور في تلك الندوات الرّاتبة التي ينظمها شهرياً في القاعة الكبرى في تلك الجامعة اللبنانية . قليلُ من السّـفراء العرب، من كان يدفعهم الحماس لحضور تلك الندوات . أما صديقي عميد السلك العربي زميلي السفير المغربي “أوملـيـل” ، فهو الذي يشاركني حضور تلك الندوات. .
تسألني أين التقيت “بنـت داغـر”. .
هنالك صادفـتها، بعد اختتام ندوة من تلكم النـدوات. قـدّمني إليها صديقي “هنري زغـيب”، فيما كنت أتأهّب للمغادرة :
– هذه إعلامية نابهة، من بيت “داغـر” . . إعلامية تشـعّ إعلاماً. . فهي صحافية جميلة وكثيرة المواهب. . لها صوت جميل يخرج عبر إذاعة “الشّـرق” البيروتية. .
قال لي صديقي أنها تطلب إجراء لقاءٍ صحفيِّ مع سـفير السـودان. قلت له موافقاً: – وكيف أتردّد في استقبال نجمة مثلها. . ؟
– سـعادة السّـفير يشرّفني أن أجري تحقيقاً صحفياً مفتوحاً معـك.. في الشعر وفي الدبلوماسية والسياسة . .
وقفت عند إسـم “داغــر” . تقول المراجع هو إسمٌ عربيٌّ أصل، ويُطلق على الإنسان المُقتحم والمُهاجم، وربّما حمل الإسمُ بعضَ صفاتٍ سلبية . غير أنّ التي عرّفني إليها صديقي “زُغيـب” ليسَ لها من سلاح غير رقـتها ودماثة خلقها وأدبها الجـمّ، ولا أحدّث عمّا يسحر أكثر عندها. .
. * * * *
تمضي الأيام سراعاً في بيروت بايقاعاتها الرشيقة ، بمثل رشاقة ألحان ابن الرحباني لبنـت حـدّاد، السيدة فيروز. كنّا نحن السّفراء في بيروت نسعد في بحار السياسة والثقافة والأدب.
في انشغالاتي السياسية والدبلوماسية تلك في بيروت ، فاجأني ذات يومٍ ، صديقي “هنري زُغـيـب” ومثلما عوّدني دائما باجتذابه لي لحضور الأمسيات الثقافية الجميلة في تلك المدينة البديعة، بأن الأستاذة “بنت داغــر” تدعوني لحضور حفـل تدشين مجموعـتها الشعرية الأولى التي صدرتْ قبل أيام ، وسيكون الحفل ضمن فعاليات معرض الكتاب السنويّ الذي يقام بضاحية “أنطلياس” البيروتية ، أوّل المطالع إلى “بكفـيـا” و”بسكنتيا” حيث ميخائيل نعيمة وجبل لبنان هناك. .
ذلك معرض للكتاب في “أنطلياس”، أكثر مشرفيه وحضوره، من أبناء طائفة “الروم الأرثوذكس” ، وهم من العرب المسيحيين في لبنان. يقام ذلك المعرض في صالة كنيسة كبرى لتلك الطائقة هناك. . الذي شجّعني لحضور تدشين ديوان “الداغرية” : “آية الحواس”، إصرار صديقنا وزير الثقافة الأسبق الياس حنا ، رئيس جمعية الإخوة اللبنانية السودانية ، والرجل من أقرباء عصقورة لبنان المغرّدة فيروز. شجعني أيضا لحضور المناسبة صديقي الأستاذ سليمان بختي مدير دار نلسن للنشر في بيروت ومعه الشاعر شوقي أبي شقرا الذي طالما حدّثني عن شاعرنا الفيتوري الذي يحب. قال لي صديقي سليمان أنّ الشاعر الرقيق منصور الرحباني شاعر الكثير من أغنيات فيروز، سيدشن أعماله الشعرية في ذات المعرض.
تلك سانحة استملحتها لتلبية الدّعوتين، فأشارك في تدشين أعمال شاعر وشاعرة هما الجميل منصور الرّحباني والجميلة “بنت داغـر” ، وفي مشوار واحد.
في ذلك المساء الربيعيّ البديع، دلفتُ إلى باحة كتيسة “الروم الأرثوذكس” في ضاحية “أنطلياس” ، فوافاني واستقبلني صديقنا الوزير الأسبق الياس حنّـا ، ورافـقـني إلى حفل تدشين مجموعة الرّحباني الشعرية. كان منشغلا في توقيع مجموعته الشعرية، وما أن رآني حتى هـبّ خـفـيفاً لمعانقتي مُرحّبا ، وتلقاني بحفاوة شـاكراً تشريفي لحفله المتواضع . كان رشيقاً برغم بدنه الثقيل. تحدّثت إليه مُقدّرا إسهاماته العظيمة في الصّرح الفيروزي ، خاصة بعد رحيل شـقيقه الموسيقار عاصي .
تبادلنا عبارات المُجاملة وقد أجزل في شكري لمبادرتي في حضور تدشين أعماله الشعرية ، قبل كلّ السفراء العرب المعتمدين في بيـروت. أهداني الرّجل المجموعة ممهورة بتوقيعه وبعبارات رقيقة شكرته عليها، ثمّ غادرتُ إلى الجناح التالي الذي تدشّن فيه “بنت داغـر” ديوانها ” آية الحواس” .
في طرف آخر من حفل منصور ، رأيتُ “بنت داغـر” ، محفوفة بكوكبة من شباب وفتيات جميلات. هـبّـت “الداغرية” من مقعدها مُرحّبة بتحيات لبنانية فيها التقدير والحميمية . الأستاذة “بنت داغر” هي من آل “داغــر”، أسـرة ذات صيت، تتوزّع فروعها في لبنان وأبعد، ولشخصياتها أدوار لافـتة في السّـاحات الثقافية والإعلامية والسياسية. كنتُ في مطالعاتي حول تاريخ علاقات اللبنانيين بالسودان، أعرف أنّ لآل “داغـر” ومن الضاربين منهم في أصقاع المهاجر، نفراً منهم أقام في القاهرة، وأن لبعضهم أعمال تجارية في سودان الحكم الثنائي. وفي مطالعاتي تلك، صادفت بعض معلومات أثارت انتباهي ، تتصل بالمفكّر صاحب العبقـريات عباس.محمود العقاد. وجدت إشارات تشير إلى أن الإسم الحقيقي لـ”ســارة” التي كتب العـقاد قصتها في محاولته اليتيمة لكتابة ما يشبه الرواية القصيرة، هوإسمٌ لامرأة لبنانية من بيت آل “داغــر”، وتقيم مع أسرتها في القاهرة . جرت أحداث القصّة في سنوات الثلاثينات تلك ، فتصوّرت أنها قد تكون إحدى جـدّات “بنت داغـر” التي عرفتها أنا في تلك الندوة في صيف عام 2008م في بيروت. “ســـارة” التي أغرم بها العقاد هي إذن تلك الفتاة المقيمة في القاهرة ، والتي أغرم بها غراما ملتبسا في الواقع الماثل لا في الخيال الافتراضي ، هي سيّدة لبنانية من آل “داغـر”. كنتُ أرى في ملامح تلك الشاعرة المليحة البيروتية ، شيئاً كثيرا من ملاحة تلك التي خلدها العـقـاد في عمله الروائي الوحيد . كتب الأديب العـقـاد يصف لك “ســارة” :
(لونها كلون الشهد المُصفَّى، يأخذ من محاسن الألوان البيضاء والسمراء والحمراء والصفراء في مسحة ٍ واحدة. وعيناها نجلاوان وطفاوان، تخفيان الأسرار ولا تخفيان النزعات، فيهما خطفة الصقر ودعة الحمامة. وفمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسق ٍ وانتظام، ولها ذقن كطرف الكمثرى الصغيرة، واستدارة وجه وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في ملحة الناظر، وبين وجهها النضير وجسمها الغضير جيدٌ كأنه الحلية الفنية ، فليس هو جيد ِ كأيّ جيد، ولكنه الجيد الذي يوائم بين ذلك الوجه وذلك القوام سِبكت لتنسجم بينهما وفاقًا لتمام الحسن من كليهما .
يتخطاها من يراها على عجل، ثم يعود مدركا أنه قد تخطى شيئًا لا يُفَات، فليست من الروعة بحيث تقسرك على التحديق إليها، وليست من سهولة المرأى بحيث ترسلك ناجيًا في سبيلك … قوام بين هذا وذاك، أو طراز آخر غير هذا وذاك. لو تكفَّل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفَّف شيئًا من قوامها الرداح بين الربعة والطويل، قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة. . )
ذلك عن “ســارة”- العـقاد. . لو كانت جـدّتك يا “بنت داغـر” في مثل ملاحتـك التي رأيتها بعينيّ ، فلـلعـقـاد كلِّ العـذر في التباس علاقته مع التي ســمّاها “ســارة” ، فتعذّبا معاً فيما هو سعى السعي كله لامتلاكها وهي العصفورة الطليقة. غير أنّ المفكّر العاشق وفي الرواية إسمه “همـام”، بقي مُلتزماً بكبريائه، “عملاقاً ” كما شاع عنه ذلك اللقب، مباعداً نفسـه – بعد “ســـارة”- عن العلاقات النسائية التي ستجرّه إلى الإرتباط بإحداهن، فتنفتح أبواب عـذابات قد تجنح به إلى ما لا تحمد عواقبه. بقيّ عباس العقاد أعزبا بقيت حياته. .
ليس من اللائق – بل هو من العسير- عليّ أن أفاتح “بنت داغـر”، أنّي عرفت بقصّة إحدى جدّاتها التي سمّاها المفكر الكبير العـقـاد : “ســارة” ، إذ هو محض تخرّص من قلمي. لكن في الحقيقة ، لم أخفِ اعجابي بحضور “بنـت داغـر” التي عرّفني إليها صديقي الشاعر “هنـري زُغيـب” في ندوة الجامعة البيروتية تلك. بعد مطالعتي ديوانهـا البديع “آيـة الحواس”(2009)، زاد ذلك الإعجاب وقد استذوقت شاعريتها الرقيقة، وتلبّستني قصائدها المُذهّـبة بذهـبِ الحروف العربية البهيّة، فكأنّ قلمي كتبَ معها بعض ما كتبتْ . أجل. . طالعتُ قصائد ديوانها الذي تفوح روائح البنفسج من بين أبياتها الشعرية المنثورة. الشعر المنثور لا يصفونه بما أفعل أنا هنا ، بل هو شعرٌ فحسب . من كبار شيوخ ذلـك الضّرب من الشّعر، ومنذ خمسينات القرن العشرين الميلادي ، شاعرُ لبنان الكبير صديقي ومعلمي :” شوقي أبي شقرا” ، أطال الله عمره وعزّز عـافيته الشّعرية . هنالك قصَصٌ جميلة لي مع أبي شقرا، ليس لي أن أخوض فيها هنا، بل في سانحة غير هذي. . طالعت “بنت داغر” بعض شعري قي مجموعتي الشعرية التي صدرت عن نجيب الرّيس، فهاتفتني لتقول لي:
– شكراً يا “شاعر القصيدة السّمراء”. . !
هي شاعرة أنيقة الحرف، ألقتْ بقلمها قبل ملاحتها، في بحر الشعر سباحة ثمّ غاصت تسـابق موجه ، موجة إثر موجة، وبوصفٍ منثورٍ حالم . ما قصدتُ أن أصفه أو أصنّـفه لك شعراً بأيّ لون وأيّ شكل. لك أن تقرأ “آيــة الحواس” لـ”بنت داغر”، فتبهـرك الصّوَر فلا تملك إلا أن تقول: ذلك هو الشّعر ، حتّى وإنْ لم ترَ للخليل بن أحمد الفراهيدي، من أثرٍ في سـباحة “بنت داغـر” تلك. .
ثم حانتْ ساعة رحيلي عن بيروت، وعن فراديسها وجنانها ، بل وولدانها وحورها وعصافيرها. ذكّرتني “بنت داغـر” بذلك الحوار الذي وعدتها به منذ أشهر، طالت الأيام وأنا كأني أماطل بحجّة انشغالاتي الدبلوماسية في مهامي في بيروت، لكنها أصرّت أن التقيها للحوار. . سألتني أن أختار المكان والزّمان فقد أعفتْ نفسها، وتركتْ لي الخيارات وعليّ أن أسارع فقد أكملت أيامي في بيروت أو كادتْ.
قلـت لها :
– أفضل أن التقيك بعيدا عن مكتبي … ما رأيـك في شارع “الحـمــرا”… وحتى نتقاسم ذلك الخيار ، فإنّي أترك لكِ يا عزيزتي أن تختاري الموقع الذي يعجبك أن نلتقي فيه في ذلك الشارع المترف بالثقافة ، المحتشد بالابداع.. دور السينما . المسارح . المكتبات . المطاعم . المقاهي، وفوق ذلك هو محفل النشاط التجاري.
وافقت على ما اقترحت .
سـارعتْ الساعة إلى أبعد من مواعيد الإفطار أو الغــداء، وكنـتُ مهموما بانشغالات والتزامات تتعلق بترتيب وداعي لبعض كبار المسئولين. قلـتُ :
– في الغـد عليّ أن أســارع لـوداع “السنيورة” ، رئيس الوزراء . بعده رئيس الجمهورية “ميشال سليمان”. .
قالت لي “بنت داغــر” متأســيّة:
– كنـتُ أطمع في وقت أطول وسانحة أريَح ، وسيكون معي مُصوّر الصحيفة لتسجيل اللقاء على آلات التصوير. .
– أنت صحفية وتعرفين كم تتقاصر ساعات يومي في ترتيب أمور مراسمية لســفـيـرٍ يعدّ للمغادرة بعد إكمال مهمته في بلادكم. .
ثم اســتأنفتْ “الدّاغرية” أســاها :
– كم أسـفتُ لأنّي فوجئتُ بنبأ مغادرتـك بيروت. . وأنت لم تكمل سوى عامين، وبدا الأمر وكأننا أغضبـناك في شيء. . ؟
قلتُ هارباً من أسئلتها :
– لكنك أيضاً كنتِ مشغولة بترتيبات تدشـين باكورة قصائدك الجميلة وإصدارك مجموعتك الشعرية الجميلة. .
طرأتْ عليها مسـحة أسـىً حقيقيٍّ كسـتْ ملامحها، لكن سرعان ما حلّتْ ابتسامة صافية وتهلل وجهها، ثمّ قالت:
– أقتـرح عليك يا سـعادة السّـفير مقهى “كوســتا” في شمالي شارع “الحمـرا” . .
– لا مانع عندي فهو قريب من مكتبي وليس بعيداً عن مكاتبكم. .
لم نأخذ من الوقت سوى دقائق قليلة، كنّا بعدها في مدخل مفهى “كوســتا”. أخذتْ “الداغرية” تبحث في هاتفها الجوّال وتحرّك أصابعها برشاقة على الشاشة . رفعتْ الهــاتف إلى جانب صفحة وجهها اليمنى، فسمعتها تحكي مع مَن لا أعرف,
– أينَ أنت يا “رضـا” . . ؟ أنا في مقهى “كوســتا” . نحن في انتظارك . لا تريد أن نبقي سعادة السفير منتظرا . هـيا أسـرع. . !
هنيهة فحسب، قدِمَ بعدها المصوّر الهُمام مُمسكا بآلة تصوير معقـدة ، وكأنه جِنيٌّ هبط علينا من السماء. فور مكالمة “بنت داغر”. .أخذ “رضا” يضغط أزرار آلة التصوير بين الفينة والأخرى ، ثم يدير العدسة الدائرية، ثم يضغط زر التصوير .كليك . هنيهة ويبتعد عنّا ، ثم يقترب من حديد. كليك . بدا الفلاش مزعجا أوّل الأمر، لكن انغمسنا معاً في مقاطع الحوار، ولم نعر المصوّر الحاذق انتباها. ألة التسحيل بيد “بنت داغـر”، وبيننا قهوة “كوسـتا” ، يخدمنا عليها نادل خفيف الحركة على وسامة . حولنا جمهرة من لبنانيين وأجانب وعرب من الخليج بدشداشات وعقالات . نسـاء ورجال يتهامسون . لم يكن بيني و”بنت داغر” الحسناء مِن حـوار، كما يُظنْ ، بل كنّا نحكي أحاديث حرّة بلا نهايات . . ذلك أسلوب فضّلته الإعلامية الحاذقة، وأراحني أنا من السين والجيم . كلامٌ كالثرثرة المفتوحة تبادلناه معاً. محض دردشة، لكنها تعرف أسرار عملها الإعلامي، وتجيد فنياته، إمساكاً ومناورة. لم تخرج محاور اللقاء عن لبنان وعن تجربة السفير، أيّ سفير سـبح في بحـر بيروت. . خضنا في التحزّبات وأمور السياسة، عن “بـرّي” و”سـعد” و”فرنجية” و”السيّد” و”جنبلاط” ،مع حفظ الألقاب، لكن كان الشعر هو أكثر ما خُضنا فيه، أنا و الجميلة الشاعرة .
قالت لي وقد أوشكتْ ساعة مغادرتي لمهمّة لي رتبتها سـلفاً، وعليّ أن أفي بها
– سـنفتقدك يا ســعادة الســفير . .
– وأنا سأفتقـد بيروت وناسـها .. ساستها . شعراءها . سأفتقد روا ئيين عرفتهم، وشعراء عرفوني وعرفتهم. . وأنت يا “بنـت داغـر”، سيفتقـدك بوجهٍ أكثر من خاص، “شاعر القصيدة السّمراء” الذي أحبّ قصــائد “آيـة الحواس”. . .
الخرطوم في 25/2/2022 –