إلتقيته مصادفة في أحد مقاهي مدريد بعد افتراق دام عقوداً، وقد كنا زميلين في المدرسة المتوسطة، وحين رأيته في مقهى “كابو نيقرو” كان ساهماً واجماً لم يحس بوجودي رغم إنني وقفت أمامه لدقائق عدة لأتأكد من أنه هو صاحبي، فانتبه لوجودي أولاً، ثم بعد أن استجمع نفسه وعقله وأعمل ذاكرته انتبه لشخصي، فهبّ واقفاً يعانقني، كان سلاماً حاراً، ولكن لم تكن مفاجأة اللقاء وصداقتنا القديمة هي سبب دموعه المنهمرة بغزارة وعبراته المكتومة التي لم تدعه يتكلم لفترة من الزمن.
وحينما هدأ وجلسنا نحتسي القهوة، سألته عن حاله وما الذي جاء به إلى اسبانيا، فاغرورقت عيناه مرة أخرى فأشفقت عليه وقلت له سأعفيك من الإجابة مادام ذلك يؤلمك لهذا الحد، فقال لا، بل لابد لي من أن أفضفض عما في نفسي والحمد لله انني وجدتك، وعلى غير موعد، فلعل الله بعثك لتكون دليلي فيما أنا فيه ولعلك تكون ناصحي أو أقله تحمل عني بعض الهم فيما أحكي لك مأساتي.
وبينا كنا نمشي بخطىً متثاقلة في جادة “بلازا دي اسبانيا” كان هو يتصبب عرقا – رغم أن الجو كان جميلاً ولم تتعد درجات الحرارة الـ 25 درجة- أي كان ربيعاً بالنسبة لنا نحن السودانيون – وهو يحكي قصة عمرها عشرون عاماً:
(كانت البداية العطلة الصيفية لعام 1976م وكنت قادماً من مقر دراستي الجامعية بالمغرب، ميمماً وجهي شطر الفردوس المفقود -الأندلس- مستلهماً قصيدة طارق بن زياد التي كانت مقررة علينا في المرحلة المتوسطة لو تذكر:
البحر خلفي والعدو إزائي ضاع الطريق إلى السفين ورائي
فتلفتوا فإذا الخضم سحابة حمراء مطبقة على الأرجاءِ
…
وأتى النهار وسار فيه طارقٌ يبني لملك الشرق .. أي بناءِ)
وأردف مواصلاً (وتلفتُ فوجدت البحر خلفي والأندلس إزائي وأنا أبحر عبر مضيق جبل طارق .. وبدأت أردد أبيات من تلك القصيدة الرائعة..
والشوق يحدوني توجهت إلى غرناطة التي وجدتها مدينة عربية إسلامية كأن بني الأحمر تركوها بالأمس القريب، قصورهم كما هي بزخارفها ونوافيرها وأُسودها الإثني عشر الرابضة في البهو الذي يعرف باسمها “بهو الأسود” في قلب قصر الحمراء، تدفع المياه عبر أفواهها لضبط الوقت، أي أنها ساعة.
وتجولت داخل قصر بني الأحمر ووجدتني أنقل على دفتري ما خطه أجدادي على جدران غرف القصر وساحاته، ولفت هذا الأمر نظر السياح غير العرب – ولم يكن هناك من بني يعرب بن عدنان أو الناطقين بلغته غيري – واستغربوا قراءتي وكتابتي للغة مكتوبة منذ سبعمائة عام، واستفسرني كثيرون منهم إن كانت تلك الكتابة ما تزال مستعملة إلى الآن أم أنها مثل الهيروغليفية قد اندثرت وبالتالي يكون من يقرأها ويكتبها عالم آثار؟ وكنت فخوراً وأنا أشرح لهم أن تلك المكتوبة منذ سبعة قرون هي نفس اللغة التي نستعملها اليوم.
وصرت دليلاً سياحياً من غير أجر، أجري الفخر والإعتزاز بأنني حفيد من كتب على هذه الجدران منذ سبعمائة أو ثمانمائة أو ألف عام، كذلك كشف ما يغيب عن هؤلاء من ماضي أجدادي التليد.. ورأيت الإعجاب في عيونهم.
ورأيت إعجابين في عيونها.. كانت من بلاد العم سام، وكانت عندما ينصرف القوم إلى قاعة أخرى أراها لا تنصرف معهم بل تتعمد أن تكون قريبة من مكان تواجدي، ثم صارت تبتعد عن والديها قليلاً قليلا لتقترب مني حتى غافلتهم .. وصرت دليلاًً سياحياً لها وحدها ..
ابتعدنا عن قصر الحمراء ومشينا في حواري حي البياسين (أي “البائسين” أو “البيتين”)، كل الدور هنا على الطراز الإسلامي، بقيت على حالها منذ أيام بني الأحمر، فقط تغير ساكنوها.. وتساءلت وقتها ترى أين كان يلاقي بن زيدون حبيبته ولادة بنت المستكفي؟ أفي هذا الدرب أم ذاك؟ وصرتُ “بن زيدونها” وأصبحتْ “ولاّدتي” .. وأضحى التداني بديلاً عن تنائينا.
ووجدنا أنفسنا وسط حدائق غناء وارفة الأشجار، مخضرة العشب، خرير جداولها موسيقى حالمة، حكيت لها عن حضارة المسلمين في الأندلس والنعيم الذي كانوا يعيشونه ولياليهم وجواريهم و… وكان ذلك منذ ثمانية قرون خلت! كانت حالمة وسط هذا الجو الرومانسي.. وازداد إعجابها بحضارة أجدادي.. وبأحد أحفادهم.
حينما بدأ الليل يرخي سدوله كنت دليلها السياحي وشيء آخر، لم أعد أشرح لها تاريخ أجدادي، فقد بدأ الصمت يتكلم، وتلاقت أكفنا، وجلسنا على إحدى الكنبات وسط ذلك السحر الخلاب.. وخف المكان من المارة رويداً رويدا حتى لم يبق في “جنة العريف” إلا فتىً من قلب إفريقيا وصبية من بلاد تمثال الحرية.. سألتها عن عمرها قالت خمن! قلت ثمانية عشر، تسعة عشر، قالت بل خمسة عشر، لم أصدق، كانت طويلة القوام مكتملة الأنوثة، وخفت عليها من نفسي وخفت على نفسي منها.. لكنه لم يعد ثمة مجال للتراجع.
اضطرب أسفل جوفي وسرت برودة في أطرافي وبدأ صوتي يرتجف، وأحست هي ببرودة أطرافي حينما عانقت أناملها أصابعي، لم تستطع أن توقفني لأنها لم تستطع أن تسيطر على نفسها، ولم يكن هناك من يردعنا كلانا فقد خلت “جنة العريف” تماماً من البشر خلانا.
…
أكملت دراستي بالمغرب وعدت إلى السودان وانخرطت في العمل وتزوجت وكونت أسرة ولم أعد أذكر الأندلس إلا لماما. ومضت السنوات ومضى عقد من الزمان وكاد أن ينقضي عقد آخر، وفجأة عادت إلى الوعي من العقل الباطن ذكريات الأندلس، إذ توجب عليّ السفر إلى مدريد في مهمة عمل.. وكان لابد من عود أحمد إلى ديار الأجداد – الأندلس.
ومرّ شريط كامل أمامي وأنا بين جنبات قصر الحمراء، وخفق قلبي حين تجولت بين أشجار “جنة العريف”، لم يتغير فيها شيء البتة.. وهاهي الكنبة التي جلسنا عليها.. وكأن تلك الجالسة عليها الآن هي نفسها التي جلست عليها بجواري منذ عشرين عاما، ترى أين هي الآن؟ وماذا صارت إليه؟ وهل تزوجت وهل لديها أولاد؟
كل ذلك جال بخاطري وأنا أسير الهوينى على نفس الممر وباتجاه الكنبة التي مازالت على حالها كل تلك السنوات، ونظرت خلسة إلى الجالسة عليها، ودق قلبي بعنف وتسارعت ضرباته.. كأنها هي، ولم أستطع مقاومة النظر إليها، وتعمدت أن أجلس في الطرف الآخر للكنبة – ولم أكن أقصد سوءا – وبدأت أختلس النظر إليها .. نفس الملامح والشبه والقوام، فقط اختلف لون بشرتها فهذه أميل إلى السمره، وأحست هي بأني مهتم بها فوفرت علي جهدا كبيرا إذ تحدثت معي وسألتني من أين أنا – وذلك سؤال للتعارف لدى الغربيين كما تعلم – فأجبتها وأنا أقترب منها بأنني من قلب أفريقيا، فتبسمت ابتسامة غامضة وقالت لي إن أمها أخبرتها بأن والدها من أفريقيا، كان في صوت الفتاة شيء من الحزن علمت من خلال حديثها أنها لم تر أباها قط فحزنت لحزنها.
سارا ! سارا! والتفتت الفتاة إلى مصدر الصوت، وقالت لي هذه أمي تناديني ويجب أن أذهب.. أحسست بأن كياني كله يريد أن يذهب معها، قوة هائلة تجذبني لتلك الفتاة، لا لم تكن أبداً مثل تلك الجاذبية لتلك الفتاة في هذا المكان منذ عشرين عاما، بل شيء آخر أقوى وأطهر، وحاولت ثنيها عن اللحاق بأمها، إلا أن هذه كانت قد لاحظت تأخرها فجاءت تستطلع الخبر.
ووقعت عيناي على أمها.. ولوهلة تسمر بصري عليها.. فوقع قلبي بين أضلعي .. هببت واقفاً كمن لسعته جمرة ولم أتمالك نفسي واقفاً فهويت إلى الكنبة، فلحقتني الفتاة ووضعت ذراعيها حول عنقي وأنا في حالة يرثى لها، لاهث متقطع الأنفاس.. وكالحشرجة خرج صوتي من فمي.. سألتها هل هذه أمك؟ قالت نعم، استنجدت بالأم ونظرت إليها متوسلا فجاءتني الإجابة بإيماءة من رأسها، فأيقنت بأن الفتاة ابنتي..
بكيت بكاء مرا ، بكاء الناقة على فصيلها، واحتضنت سارا – ابنتي التي كانت الثمرة والحصاد والضحية لهفوة في لحظة ضعف بشري وغياب إيمان.
قالت لي لم آخذ عنوانك ولم تتصل بي على عنواني الذي أعطيتك إياه.. شعرت بها تتحرك في أحشائي بعد أن رجعنا لأمريكا وهناك وضعتها، وفي العام التالي جئت بها إلى هنا على أمل أن أجدك، وصرت كل عدة سنوات آتي عسى ولعل، ومع مر السنين فقدت الأمل في اتصالك وفي لقائك، ولم أكن أعلم أن ساعة اللقاء بابنتك قد حانت، وحان وقت راحة ضميري، فقلت لها: وحان وقت تعذيب ضميري.)
لم يتمالك محدثي نفسه فأجهش بالبكاء مرة أخرى وبدأت قواه تخور، فسندته حتى وصلنا إلى أقرب كنبه فأجلسته عليها، فقال: (ماذا عساني أن أفعل؟ أعلم أن هذا خطأي وهذه مصيبتي وحدي، لا بل مصيبتي ومصيبة ابنتي، فهي ولدت وتربت في بلاد أخاف أنا نفسي على أخلاقي منها، فبلاداً دونها إفساداً كانت هي – أي ابنتي – ثمرة إفسادها، فكيف اطمئن عليها هناك وهي من صلبي؟ وهي حتماً لا تعرفني حتى تأتي وتعيش معي في بلادي، وحتى إذا وافقت على المجيء معي فإنها لن تتحمل ما نتحمله نحن من ضنك العيش وقسوة الحياة. دبرني يا أخي.. والأدهى والأمر مسألة الدين.. فأمها قد نصرتها رغم أنها ولدت على الفطرة وأنها لأب مسلم. لقد غاب وعيي لحظتها يا أخي لأجل نشوة عمرها ثوان أسفرت عن آلام أربعين عاما، عشرون منها عمر ابنتي التي حُرمت من الأب سنوات عمرها جميعا، وعشرون أخرى عاشتها أمهاً عذاباً لأجلها وبسببها، وما سأعيشه أنا بقية عمري).
قلت له مواسياً ومعزياً إن الله يغفر الذنوب جميعا فاستغفره، وسيقضي بشأن ابنتك أمراً كان مفعولا.. فقط فوض أمرك إليه انه نعم المولى ونعم النصير. فأحسست به قد هدأ قليلا وأخذته معي إلى مقر إقامتي وهو يجر رجليه جراً كأن على أكتافه جبالاً ينوء جسده النحيل بحملها.
جدة – السعودية
أكتوبر 1994م