عرضنا أمس لآراء جيمس كري أول مدير للمعارف في السودان (١٩٠٠-١٩١٣) في الإدارة الأهلية. ووجدناه خصماً لها بالذات بوجه من سماهم “رومانطقيوها” الذين سعوا إلى تطبيقها أعوج عديل. وكان إشفاق كري منها، كمدير للتعليم، أنها مثل خيانة للمهمة الاستعمارية. فجاء الإنجليز لترقية الناس من تخلفهم بالتعليم فإذا بهم يتبنون سياسة الإدارة الأهلية التي هي ردة رجعية اعتزلت غرس الاستعمار من المتعلمين من تربوا على طموح قيادة بلدهم في طريق الحداثة.
ومنعاً للتطويل أعرب أدناه بعض مقال كري “”التجربة التعليمية في السودان المصري الإنجليزي ١٩٠٠-١٩٣٣” (١٩٣٥) وبتصرف.
لقد انقضى الزمن الذي بالوسع أن تخدع فيه واحداً من الأهالي من تطلع لفرصه الاقتصادية في ظل الاستعمار بضرب الطبول حول سياسة الإدارة الأهلية. انقضى الزمن الذي تحتال به للحكم لتقيم مجتمعاًعليه حكاماً عالة على الدولة. وهم، إي الإداريون الأهليون، خالفة مطلقة في كثير من الأحيان يرقصون على زمارة سادة شباب إنجليز ممن أقصى تفكيرهم أن الأشياء ستبقى على ما هي عليه. ليس بوسع هؤلاء الإداريين الأهليين أن يكونوا، بما هم عليه، في مصاف نبيل ذي أطيان في إنجلترا. ولكن سيكون مما يسلي أن تراهم يقلدونه. وعليه فتطلع الإنجليز ليكون الإداري الأهلي كما اتفق لهم حلم عقيم. وما أفسد هذا التطلع، لحسن الحظ، ترهة أساسية. فالإنجليز يتجاهلون هنا ضغوط التغيير الاقتصادي على الأهالي التي لا مهرب منها. فلن تقوم للإدارة الأهلية قائمة إلا أذا كان التاجر، والسكة حديد، والسيارة، والمدرس، والعالم الزراعي، ممن استجدوا بالاستعمار، وهم واهمين.
وجاء كري بنص عن تجربة أوربا: فبرغم محافظة الطبقة الحاكمة في إنجلترا وتعاليها على التغيير الذي جرى حولها فالذي شكل إنجلترا لمائة عام خلت هو النول الكهربائي وماكينة النسيج والالة البخارية. ويتواتر بين الأفريقيين اليوم إجراء مماثل بسرعة أشد. ويلقى الأفريقيون هذه المستجدات بالترحاب ليجلسوا مقعدهم على مائدة التغيير مع الغرب أندادا.
الصورة التي رآها كري عام ١٩٢٦في السودان هي صورة بيروقراطية فقدت ثقتها في آلة إدارتها القديمة (أي قبل الحكم بالإدارة الأهلية) ولكن تبقت فيها مع ذلك قوة دفع لم تبرحها. (ونسب ذلك لوجود شوستر السكرتير المالي الذي حرص دائماً على تمويل التعليم والأبحاث). ولكن ما ذهب شوستر في ١٩٢٧ حتى صارت اليد العليا لدعاة الإدارة الأهلية. ومضى هدلستون الذي حل محله على خطته. فأحسن إلى كلية غردون بتفتيش علمي لأدائها خرجت منه مكللة بالظفر. وحلت متاعب بتمويل مشروع الجزيرة اضطرت به حكومة السودان للاستدانة مما أدخل وزارة الخزانة البريطانية على خط السودان لإدارة منصرفاته بتقتير شديد. وجاء إلى منصب السكرتير المالي في ١٩٣٢موظف منها يرعي استثمارات وزارته في السودان. وبالنتيجة كان حظ التعليم في مثل تلك الظروف مبخوساً. واستشهد كري هنا بلورد كرومر الذي قال إن وزارة الخزانة ستخرب الإمبراطورية بيدها القابضة.
وقال كري إنه لما عاد للسودان في ١٩٣٢ وجد جو التعليم ملبداً بالغيوم. فاقتطعت الحكومة ٣٠ في المئة من أجر خريجي كلية غردون. ولما قاوم الطلاب هذا الإجراء بإضراب الكلية في ١٩٣١كما هو معروف خفضت الحكومة الاستقطاع إلى ٢٠ في المئة. وقال كري إن من رأيه أن ذلك كان” مثلاً لتفرقة ظالمة بحق طبقة بعينها من موظفي الدولة”.
ولاحظ كري، من الجانب الآخر، رومانطيقيّ الإدارة الأهلية في الأثناء في شغل شاغل بها. فأغلقوا مدرسة الإدارة التي كان يجري فيها تدريب المتعلمين السودانيين ليكونوا قضاة وضباط شرطة ومآمير. فأنكمش بالنتيجة نطاق تخديم السودانيين. وفاقمت الأزمة الاقتصادية في ١٩٣٠من ذلك الانكماش. ولو فهم الناس إجراءات الحكومة مثل كمش التوظيف كإجراء. لا تغييرا ً في السياسة، لما كانت في بطنهم مغصة. ما أمغص المتعلمين علمهم أنها سياسة أخذت بها الحكومة في إطار الإدارة الأهلية ضيقت فرص استخدامهم.
وكانت تلك ردود الفعل السلبية على طموح الأهالي للترقي وعلى تقدم التعليم في أفريقيا من جراء سياسة الإدارة الأهلية في تفسير كثير من دعاتها. وعاد كرى مرة أخرى ليقتطف من لورد كرومر الذي وصفه بواقعية أخلته من كل وهم. قال كرومر: “فكرة إعادة تكوين مجتمع الأهالي على مثال أهلي متطور ضلالة خالصة. فليس يبقى مجتمع الأهالي على ما كان عليه بعد أن تنفس الغرب عليه لا نفساً مشبعاً بالفكر العلمي فحسب، بل أيضاً لأن هذا النفس، متى تعرض له الأهالي، ترك أثراً لا ينمحي. فلا مناص من أن تكون أسس البناء الجديد في أفريقيا غربية لا شرقية” (في كتابه الإمبريالية قديماً وحديثاً).
ومضى كري ينقل عن آخرين آراءهم عن فساد فكرة الحكم غير المباشر الذي أراد استبعاد المتعلمين الأفريقيين من ميدان الإدارة. فأخذ من بروفسير ماكميلان، من جامعة في جنوب أفريقيا، قوله: “المتعلمون الأفريقيون هم عصب الأمر ولن يزيد الوضع إلا حاجة لهم بينما يميل ضباط الخدمة الاستعمارية للاستغناء عنهم كمجرد إزعاج. وهم بلا شك مزعجون. ولكن، بالنتيجة، ثمة خطر بعينه، كان خافياً أو أعرجا، من اصطفاف ضباط الخدمة الاستعمارية مع شيوخ من صنعهم عَدّوهم أقل إزعاجا من المتعلمين. وسيقف نجاح سياسة الإدارة الأهلية، أو فشلها، على حمل مطامح هؤلاء المتعلمين ورهانهم على حاضرهم ومستقبلهم واستصحابها. ونقل كري عن موظف حديث المعاش من خدمة حكومة السودان قال: “العثرة الكبرى هي امتناع رؤساء المصالح الفنية من تعيين المتعلمين السودانيين، وخلوهم من أي تعاطف حيال هؤلاء السودانيين” سوي في الخدمات الطبية والسكة حديد والمساحة. وما لم يُحمل كل المسؤولين ليروا أن توظيف السودانيين هو عماد سياسة الدولة إذا ما أردنا إحداث تقدم حقيقي. وبالعدم فستنهض حركة قومية ضيقة الأفق ستطيح بأخضر الإداريين الإنجليز ويابسهم.
وذكر كري بالخير سير دونالد كامرون مدير التعليم بنيجيريا في كلمة له في ١٩٣٤وذكر له سابق خدمته في السودان. وقال إن كامرون ميز فكرة لوقارد في الحكم غير المباشر من غير أن تصرعه أو تستبيه.
ولم يشقق كري الكلام حين عاد للإدارة الأهلية في السودان. قال: “كان تفسير الحكم غير المباشر في السودان في السنوات الأخيرة شراً مستطيرا. فإن عنى شيئاً، أي شيء، صح أن يعني الحد بقوة من عدد الموظفين الإنجليز في الحكومة ومن أهل الرتب العليا خاصة. وهذا بالتحديد ما لم يعنه الحكم غير المباشر في السودان”. وأضاف أن كثيراً ممن ذكر من الخبراء وغيرهم قالوا بأن الإدارة الأهلية مفهوم جيد “ولكنك تبتذله متى كان مبرراً لتعطيل التطور التعليمي كما في السودان”.
ورأى كري الحل في استعدال سياسة الإدارة الأهلية والعودة لأوضاع الحكم التي سبقتها وما تزال طرية لم ينقض وقت لتجف وتُنسى. أي العودة لحكم البيروقراطية من المر كز وتوظيف المتعلمين السودانيين لإدارة الدولة مع الإنجليز. ومتى لم يحدث هذا تطلع السودان لغير بريطانيا شريكاً في التقدم. فلا مناص للمتعلمين للسودانيين من مقارنة مالآتهم في الخدمة، وفرص ترقيهم بالسودان بمن لهم نفس مؤهلاتهم من الموظفين المصريين بالخدمة في السودان. وخلص إلى ضرورة العودة إلى نظم الحكم التي سادت في أوائل الحكم الإنجليزي في السودان متى تخطينا المصاعب المالية والسياسية.
وفي مقال آخر نعرض لخيانة المتعلم السوداني لنفسه وحداثته يوم سلّم الريف صاغراً للإدارة الأهلية وراح يذيع محامدها عن قلة حيلة.
IbrahimA@missouri.edu