رأينا في أحاديثي التي مضت خيانة القوى البرجوازية الصغيرة في الدولة والسياسة لحداثتها حين انقلبت مئة وثمانين درجة من خصومة الإدارة الأهلية، وتبييت العزيمة للخلاص منها لتصير بوق إذاعة محامدها. ورأينا هذا التحول يتجسد في منصور خالد الخالق الناطق. فظل موقفه من الإدارة الأهلية أنها، ضمن قوى وصائية أخرى، سبب تخلف البلاد. ثم خرج في “شذرات” (٢٠١٨) يلهج بها ويزكي خدماتها الجليلة للبلد.
وسبق محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء السابق، منصوراً في الهبوط غير الناعم من شاهق الحداثة خصماً للإدارة الأهلية إلى زعامة حزب، هو الأمة، كانت الإدارة الأهلية هي عصبه.
توسع المحجوب كما لم يفعل أحد من السودانيين من جيله, سوى الإداريين البريطانيين, في النظر إلى الإدارة الأهلية في كتاب خصصه للحكومة المحلية في ١٩٤٦. وقال بإن حكومة الإنجليز في أول عهدها “لم تجد أساساً لتقيم عليه نظام الحكم غير المباشر” لأسباب منها أن المهدية زعزعت النظام القبلي بتهجير القبائل إلى أم درمان، وبقسمة القبيلة الواحدة بين مبايع للمهدية ومعارض لها. وتلك نظرة عصماء في فبركة الإنجليز للإدارة الأهلية كما هي حجتنا من مقالاتنا التي اتصلت منذ أسابيع.
والتفت محجوب بغير سابق إلى بولتيكا النظارة التي استنها الإنجليز بعد ١٩٢٨ بدمج القبائل الصغرى في القبائل الكبيرة الموجودة في منطقتها، أو بدمج القبائل الصغرى في وحدة كبرى. وقال إن إجراء الدمج خلق زعماء في القبيلة الكبيرة أصبح لهم به “نفوذ مماثل لنفوذ عهود الإقطاع حتى حسب الناس أنهم إزاء ديكتاتوريات أهلية يسندها سلطان الحكومة، وتحميها حرابها”. ونوه للخلاف الذي ينشأ في مثل تلك القبائل المدمجة. فيدس الكبير لزعماء القبائل الصغيرة “ليحطمهم ويقضي عليهم حتى لا ينافسوه يوماً في رئاسة مقاطعته”. وانتقد مبدأ وراثة الحكم ابناً عن والد الذي جعل الحكم حكم مقاطعات ملكية لا حكماً ديمقراطيا. وانتقد نظام الحكم المحلي الذي جاء به الإنجليز في ١٩٣٧ بزعم التحول إليه عن الإدارة الأهلية. وعلى استحسان بعض جوانبه إلا أنه عاب عليه أن الإدارة الأهلية “وليدة النظرة الاستعمارية لا تزال باقية (فيه) تتمتع بالقوة والسلطان، وأن أطلق عليها اسم الحكومة المحلية”.
وكانت لي مع محجوب واقعة اتصلت بتحوله من الحداثي المفعم إلى مظاهرة الأعيان ممن كرههم في شبابه. كان المحجوب رئيساً للوزراء عن حزب الأمة في تحالف مع الوطني الاتحادي حين تم حل الحزب الشيوعي في ١٩٦٥. وكان مصطلح “رجعية” سعر سوق وقتها. ونال محجوب حظه من الدمغ به لأنه فض حركة تقدمية على رأس حلف رجعي. ومس محجوب من الصفة ضر فقال بعزة نفس معروفة عنه مشمئزاً من إطلاق “الرجعية” عليه: إذا كان حب الوطن والدفاع عن إرثه وتاريخه رجعية فأنا رجعي”. وقس على ذلك مرات. فكتبت أرد عليه في جريدة الميدان مقالاً بعنونا “محجوب آسف جداً”. ذكرته فيه بأنه ربما الذي كان جاءنا بمصطلح “رجعية” في كتاب “موت دنيا” بالاشتراك مع محمد عبد الحليم. وضربت له الأقوال من كتابه في صفة الرجعية. وسألته ما جد على الرجعية التي أحسن تشخيصها في كتابه المعروف حتى “يتنبر” ليومنا بأنه رجعي رجعي رجعي. فالذي تغير هو المحجوب لا الرجعية.
رأينا منصور طِرباً للإدارة الأهلية بعد طول خصومة مثله مثل محجوب. وجاء بلازمة عند كل من تنصل عن موقف جذري تبناه يوماً ليرميه في القبل الأربعة. واللازمة هي أن الشيوعيين، لا غز الله فيهم بركة، هم من دلسوا الأمر وأبلسوه. فقال منصور:”القيادات الأهلية لم تكن جماعات أوتوقراطية مهيمنة كما تصفها بعض الجماعات اليسارية”. وكأنه لم يصفها في يوم غير هذا ب”patriarchy ” في إنجليزيتها الفصيحة ليعربها ك”الوصائية”. والشيوعيون، تطير عيشتهم، هم مع ذلك من قالوا غير مسبوقين إن الإدارة الأهلية أوتوقراطية. مطولك يا روح!
هذا حديث آخر يرد عن “قرنة” الشيوعيين مع الإدارة الأهلية.
IbrahimA@missouri.edu