تقرير – إسماعيل محمد علي
لا حديث في مجالس وشوارع الخرطوم هذه الأيام سوى ما تشهده العاصمة ومدن السودان الرئيسة من انفلاتات أمنية مرعبة تمارس في وضح النهار، وليس ليلاً كما هو معتاد، فمواقع التواصل الاجتماعي تعجّ بفيديوهات لحوادث سطو ونهب، بعضها تمارسه مجموعات ترتدي لباساً عسكرياً، والآخر بواسطة أفراد وجماعات تستخدم الدراجات النارية في عمليات النهب والسرقة في الشوارع، ما دفع سكان بعض الأحياء إلى تشكيل فرق (دوريات)، وخصوصاً ليلاً، في محاولة لمواجهة هذه الظاهرة التي باتت تشكل هماً وهاجساً مقلقين في ظل تراخي السلطات الأمنية في مكافحتها بصورة حاسمة.
وتبعاً لهذه التطورات، قام مواطنون غاضبون في ضاحية “الكدرو” شمال الخرطوم، السبت 19 مارس (آذار) بحرق مناطق السكن العشوائي الواقع في أطراف هذه الضاحية عقب مقتل أحد سكانها بدافع السرقة من قبل مجموعة مسلحة لاذت بالفرار، واتهم سكان هذه الضاحية المناطق العشوائية التي تحيطها بأنها وكر للمجرمين، وتدخلت الشرطة لبسط الأمن وتأمين المنطقة التي شهدت ليلة رعب بسبب تلك الحادثة.
وتفاعلاً مع نداءات المواطنين، أشار بيان للمكتب الصحافي لشرطة ولاية الخرطوم، إلى أن شرطة الولاية شنت خلال اليومين الماضيين حملات واسعة النطاق غطت معظم مناطق بؤر الجريمة في مدن العاصمة المثلثة، بالتنسيق مع القوات المشتركة التي تضم القوات المسلحة والدعم السريع وإدارة مكافحة المخدرات والشرطة المجتمعية، أوقفت خلالها عدداً من معتادي الإجرام، بخاصة عمليات الخطف والنهب عن طريق استخدام الدراجات النارية والأسلحة البيضاء واتخذت إجراءات بلاغ في مواجهتهم.
علامات استفهام
في السياق، قال الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء معاش أمين إسماعيل مجذوب، “ما يعرف بالسيولة الأمنية، نجدها تنتشر الآن في العاصمة ومدن السودان بشكل ملحوظ، وهي نتاج بعض التفاعلات التي من أهمها الحراكات السياسية المتعددة، وانشغال الأجهزة الأمنية عن مهامها الأساسية، فضلاً عن دخول قوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام إلى المدن وتفلت بعض أفرادها. كذلك من مظاهر هذه التفلتات ظهور عصابات تمارس عمليات الخطف والنهب تحت التهديد بالسلاح تسمى محلياً بـ”النيغرز”، ومجموعات أخرى تستخدم الدراجات النارية يطلق عليها “تسعة طويلة”، إلى جانب مجموعات ترتدي الزي العسكري، وهي ظاهرة طلت برأسها في الآونة الأخيرة”.
وتابع مجذوب، “هذه الظاهرة تقع تحت مسؤولية الدولة ممثلة في الأجهزة الأمنية، وتحتاج إلى رؤية واستراتيجية أمنية لمكافحتها، لأن من يرتدي الزي الرسمي ويستخدم السيارات الحكومية ويمارس مثل هذه الأعمال الشنيعة، فهذا أمر خطير يتطلب في البداية الاعتراف بما حدث من وقائع والقيام بمعالجتها في الخطوة الثانية، حتى تعود الصورة الزاهية للعاصمة الخرطوم التي كانت تعد أكثر العواصم أمناً في العالم، وتأثرت بهذه الحالة الأمنية الغامضة التي تزامنت مع الحراك الثوري الجاري حالياً، وإجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول) التي اعتبرها قطاع عريض من السودانيين انقلاباً عسكرياً”.
وأضاف الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية، “كان من المتوقع أن يكون الأمن مستتباً تماماً بعد قرارات أكتوبر، لكن حدث العكس وزادت هذه الانفلاتات ما أدى إلى كثير من علامات الاستفهام، وفي تقديري، على الحكومة أن تتخذ إجراءات سريعة، وأن تقوم بنشر الحقائق من خلال بيانات موثقة من السلطات المختصة، بالتالي يكون هناك تحمل وتحديد للمسؤولية والقبض على الجناة، إلى جانب تشكيل محاكم رادعة، بخاصة بمرتكبي حوادث النهب والسلب وخطف النساء، وللأسف، يحدث هذا الانفلات من دون تفسير من الجهات الأمنية والدوائر النيابية، ما سيؤدي إلى فقدان الثقة في الناحية الأمنية ويقود البعض إلى التجاوب والتعامل مع الجناة بدفع الفدية”. وأكد أن تعدد مثل هذه الظواهر يؤدي إلى وصم السودان في عداد الدول الأقل أمناً في العالم، وهذه من الأمور الخطيرة التي تكون لها انعكاسات سلبية على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
قصور وتواطؤ
في المقابل، قال الناطق الرسمي باسم تجمع قوى تحرير السودان، فتحي عثمان، “في الحقيقة، تكررت الاتهامات لقوات الحركات المسلحة بأنها وراء عمليات الترويع والنهب التي تشهدها العاصمة الخرطوم، بيد أنه لا توجد قوات للحركات داخل المدن السودانية منذ مطلع فبراير (شباط) بموجب القرارات التي اتخذها اجتماع المجلس الأعلى المشترك للترتيبات الأمنية الذي عقد في الفاشر، عاصمة دارفور برئاسة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، فهذه اتهامات تطلق جزافاً وعن قصد من قبل جهات وحركات رافضة لاتفاق السلام الغرض منها إثارة الفتن والبلبلة”. وزاد عثمان، “في رأيي أن معالجة هذه الظاهرة المقلقة للمجتمع تكمن في تكوين جيش قومي بعقيدة واحدة، وحل كل الميليشيات، بخاصة بعد عودة نشاط بعض ميليشيات النظام السابق في أعقاب قرارات 25 أكتوبر، مع ضرورة إصلاح المؤسسات الأمنية”. واعترف الناطق الرسمي باسم تجمع قوى تحرير السودان، بوجود قصور وتواطؤ واضحين من قبل الجهات الأمنية، إذ لم تقم بالحسم اللازم لما يحدث من انفلاتات متكررة، بل لم تمارس دورها بالقبض على المجرمين حتى إذا كان من بينهم أفراد أو مجموعات نظامية، مؤكداً أن هناك جهات لا تريد أن تحقق ثورة ديسمبر (كانون الأول) أهدافها، وتسعى لزج الحركات في حرب مجدداً، لكن هيهات، فمهما يحدث، الحرب مستحيلة وسنفوت الفرصة لمن يسعون لإشعال نيرانها”.
الفوضى الخلاقة
من جانبه، أوضح المحامي السوداني تاج الدين صديق، أن هناك خللاً واضحاً في سير عمل الدولة، فلا توجد هيبة بالمعنى الواضح للكلمة، ولا يوجد تطبيق للقانون بحق المجرمين على الرغم من أن مواد القوانين رادعة، فضلاً عن انتشار السلاح بشكل كثيف من دون مساءلة، ما شجع على أعمال السلب والنهب التي تمارس بشكل لافت في مدن البلاد، لا سيما الخرطوم. ولفت إلى أن المشكلة الحقيقية أن العسكرية أصبحت مهنة للارتزاق والابتزاز، في ظل ضعف الراتب الشهري مقابل تكاليف الحياة المعيشية اليومية الباهظة، كما أن وجود قوات الحركات المسلحة في أجزاء من المدن بكامل عتادها وأسلحتها، وهي تشكو من قلة الإمكانات المادية، تسبب في ما يحدث من انفلاتات، إذ لم تعد هناك عقيدة عسكرية يلتزم بها من يرتدي اللباس العسكري. وأضاف صديق، “نحن الآن في مرحلة الفوضى الخلاقة، وحسب معلوماتي أن الوضع ينذر بخطر، ففي أي لحظة يشعر الشخص بأنه غير آمن، بالنظر للعديد من المخاطر، مثل تدني الظروف الاقتصادية، وارتفاع نسبة البطالة، وآثار الحروب في مناطق الهامش”.