آمل ألا يحجب الهزء بحميدتي عنا أمرين. الأول أننا لم نر نفع فك الخط فيمن سبقوه إلى سدة الحكم من الديكتاتوريين حتى نعيره بالأمية والجهل. أما الأمر الثاني فإن لجوء حميدتي للإدارة الأهلية هو طبع سياسي في الدولة المركزية منذ نشأتها بصورتها الحديثة على يد الإنجليز. فاستنصاره بالإدارة الأهلية ليس عن جهالة بل هو تحالف في بنية الدولة السودانية حتى في عهودنا الديمقراطية. وهو من طبيعة الأشياء. فالإدارة الأهلية من صنع المركز مفهوماً وتشريعاً ووصفاً وظيفة حتى كشف مرتبات شاغلي وظائفها.
وعرضت في جزء المقال الأول محطتين استدعت فيها الدولة المركزية الإدارة الأهلية لتتقوى في مواجهة كتل حزبية ونقابية وشبابية ونسائية معارضة من المدينة. وأعرض هنا لمحطتين أخريين هما.
-محطة الجمعية التشريعية، ١٩٤٨.
٤-محطة مواجهة الإدارة الإنجليزية لحزب الأمة الذي انفك من حلفه معها في أوائل الخمسينات،
أ-محطة الجمعية التشريعية (١٩٤٨)
ثم كانت محطة الجمعية التشريعة في ١٩٤٨ التي إراد بها الإنجليز تجديد الدماء في المجلس الاستشاري (١٩٤٦) الذي تخلف عن مطلب الحركة الوطنية بالحكم الذاتي الذي تصاعد خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. فتحايل الإنجليز بمجلس تشريعي وتنفيذي فيه انتخابات مع تعيينات ووزارت للسودانيين على أن يرعي بقيده. فالسلطات كانت بيد الحاكم الإنجليزي أولاً وأخيراً. وظنوا أن ذلك القدر من مشاركة السودانيين كاف لقبولهم دخول تجربة ما عرف ب”التدرج الدستوري”، أي أن تخضع لمثل هذا التعليم في الحكم قبل أن يأذنوا لك بالاستقلال في تاريخ لا معلوم ولا مقطوع.
وقاطعت الحركة الوطنية في شقها الاتحادي واليساري الجمعية التشريعية بينما قبل به حزب الأمة. واشتهرت فيه كلمة الأزهري في اعتزاله القائلة: سنقاطعه ولو جاء مبرأ من كل عيب. وحيث جرت الانتخابات (الفوز بالتزكية غلب)كان متوسط الاقتراع ١٥ في المئة من فرط المقاطعة. والأفجع أن استشهد خمسة مواطنين في مدينة عطبرة بالبمبان القاتل خلال مظاهرة بسبيل المقاطعة. واشتهر منهم قرشي الطيب عضو الحزب الشيوعي. وكنت طفلاً بالمدينة حين رأيت قادماً من المظاهرة عبر حينا يصيح “الموت الموت”. وأوحى لي ذلك بقصة قصيرة عنوانها “الشفاه التي قبلت قرشي”. ومتى سمعت “وبجنب القرشي حين دعاه القرشي” فالداعي هو الشهيد قرشي الطيب على روحه ورفاقة طلل الرب.
وجاءت الإدارة الأهلية من باب حزب الأمة ومن باب التعيين اذي كان بيد جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري الدماغ من وراء تكوين الجمعية ومن خضع له دهاقين الإدارة الأهلية. وقال عن الجمعية لصديقه، “لا أحد تحمس للمؤسسة الجديدة. فكان من رأي الإنجليز أننا أسرفنا فوق المطلوب. أما أفندية المدن فكان رأيهم أننا لم نمض إلى نهاية الشوط. وأما التسعون في المئة من القبليين الأميين في الأرياف فهم غاضبون على الإنجليز. فهم ما طلبوا الجمعية وكل ما رغبوا فيه أن يكون عليهم ناظرهم ومفتشهم ومديرهم”. ووصف الرجل صديقه روبرتسون بأنه الإداري الذي تهفو له أفئدة رجال الإدارة الأهلية.
٣-الحزب الجمهوري الاشتراكي محطة مواجهة الإدارة الإنجليزية لحزب الأمة الذي انفك من حلفه معها في أوائل الخمسينات،
جاءت حاجة مركز الدولة إلى الإدارة الأهلية في أعقاب “تمرد” حزب الأمة على الإدارة الاستعمارية في الجمعية التشريعية (١٩٤٨). وكان الحزب قد قبل دخول تلك الجمعية مع أقطاب الإدارة الأهلية وممثلي جنوب السودان كما مر.
ثم بدأ حزب الأمة يغير رأيه في خطة الحكومة للحكم لذاتي لبطئها. فتقدم باقتراح به في ١٩٥١ من داخل الجمعية التشريعية قوامه أمران. الأول تكوين مجلس وزراء سوداني خالص وبسرعة. أما الأمر الثاني فكان ترتيب انتخابات للجمعية التشريعية على أساس الإعداد للحكم الذاتي. وعمل الإنجليز ما وسعهم لإسقاط الاقتراح بحلفائهم من الإدارة الأهلية والجنوبيين. فنقل السكرتير الإداري لحزب الأمة خبر العريضة التي وقع عليها ٣٣ إدارياُ أهلياً تؤيد خطة الحكومة في الحكم الذاتي دون استعجال أو “زف” كما أراد حزب الأمة. وقال لأعضاء الجمعية إنما أنتم هنا لتعلموا فن الحكم والديمقراطية. فرد عليه المرحوم عبد الرحمن على طه، وزير المعارف في الجمعية التشريعية، أليس لذلك التعليم من نهاية. وصوت الأعضاء من الإدارة الأهلية ضد مشروع حزب الأمة. ولكنه فاز بفارق صوت (٣٩ إلى ٣٨). ولو لم يغب كل من الشيخ منعم منصور والشيخ الزبير حمد الملك حرجاً لعواطفهم مع حزب الأمة لسقط الاقتراح.
وخشي الإنجليز للمرة الثانية، وقد شب حزب الأمة من طوقهم، أن يتحد عليه الحزب بقاعدته الريفية مع “الأفندية” في المدينة فتضيق به الوسيعة السياسية. وهو الحلف الذي أشفق منه في العشرينات وتجاوزه بالاستنصار بالإدارة الأهلية كما رأينا. فأوعز الإنجليز بقيام حزب قوامه مثقفون معتدلون وزعماء الإدارة الأهلية والجنوبيون اسمه الحزب الجمهوري الاشتراكي. وفكرة الجمهورية الاشتراكية من بنات أفكار إبراهيم بدري، الإداري بالحكومة والعضو المؤسس لجمعية الاتحاد السوداني في أول العشرينات، ومكي عباس، مدير مشروع الجزيرة لاحقاً ومؤلف كتاب “مسألة السودان”.
وكانت فكرة الرجلين عن الاشتراكية والجمهورية فكرة تبحث عن جمهور وجدته في مكان غريب بين زعماء العشائر. لم يفت على الحركة السياسية منشأ الحزب في تكتيك الإدارة الاستعمارية للمماطلة حول الحكم الذاتي. وسموه تندراً ب”حزب هكسويرث” (ديزموند هوكسورث)، نائب السكرتير الإداري في تلك الفترة، في دلالة صناعته الإنجليزية. وسرعان ما زهد الإنجليز في الحزب خاصة بعد فشلهم في ضم الختمية إليه. وعلم الإنجليز من كل ذلك أن الحكم الذاتي للسودان فكرة أزف وقتها. وليس من قوة ستصمد في وجهها. وصدق سوء ظنهم بالحزب به حين لم يفز بغير ٣ دوائر في انتخابات ١٩٥٤ للحكم الذاتي. ثم تفرق أيدي سبأ من بعد ذلك.
-محطة الحركة الجماهيرية والحكومية لتصفية الإدارة الأهلية بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤
وسنعالج هذه الفترة منفصلة على ضوء الفصول عنها في كتابي “ربيع ثورة أكتوبر”.
وهكذا فحميدتي لم يأت بأمر إدا حين استدعى الإدارة الأهلية لتصير القوة الاجتماعية لنظام ملط منها. ولم يحتج الأمر منه إلى أكثر من استدعاء خبرة الحكام الطغاة في إدارة دولة لا سبيل لحكمها إلا بشق الصف طلباً للبقاء. فلم يأت حميدتي في حلفه مع الإدارة الأهلية بجديد. فالإدارة الأهلية متعودة . . . دائماً على استرداف الطغاة ذوي الأعمار القصيرة سياسياً. ولذا قال فيها عبد الحليم على طه:
أبان لَبَاسن بوجا الما بعومو عكس الموجه
IbrahimA@missouri.edu