زرت كييف الجريحة بأوكرانيا السوفيتية في وفد لأدباء السودان عام ١٩٦٧. ولو سألتني ما بقي لك من زيارة كييف لما زدت في الإجابة عن تاراس شيفشنكو وشاعرنا وحبيبنا محمد المهدي مجذوب صاحب “نار المجاذيب”. فمن هو تاراس شفيشنكو؟ تاراس شفشنكو (١٨١٤-١٨٦١). شاعر ورسام ومناضل أشوس لحرية أوكرانيا من روسيا القيصرية. ويعتبر بلا منازع مؤسس أدب أوكرانيا الحديث وضمير أمته الحديثة. ولد في الرق أو القنانة. وتيتم في عمر الحادي عشرة. واشترى من عائد رسوماته حريته في ١٨٣٨. وألهمت كتاباته حلم أوكرانيا للحرية بينما جلبت له غضب الأمن الروسي. ولم يُنشر أكثر شعره بحياته. فاعتقله أمن القيصر ونفاه عن أوكرانيا بغير محاكمة. وزجه زجاً في الخدمة العسكرية في ١٨٤٧. ولم يطلق سراحه إلا بعد عشر سنوات. وسمى شفشنكو منفاه “سجن بلا بوابات”. وأذنوا له بالعودة إلى أوكرانيا في ١٨٥٩، ولكن سرعان ما القوا القبض عليه بتهمة الزندقة، وأخذوه إلى سنت بطرسبرج حيث مات في ١٨٦١. وفي ذكرى وفاة شفيشنكو المئوية أجاز الكونغرس الأمريكي مرسوماً في ١٩٦٠ بإقامة نصب تذكاري له في واشنطن لتخليد الشاعر الأوكراني والمناضل من أجل الحرية. وقال الرئيس أيزنهاور في مناسبة تدشين النصب إنه مقام “على شرف ذكرى شيفشنكو الذي عبر ببلاغة عن عزيمة الإنسان التي لا تخمد ليناضل من أجل الحرية، وإيمانه الذي لا يتزعزع في أن النصر لا محالة”. وأهدت أمريكا النصب “للتحرير والحرية والاستقلال للأمم المضطهدة”. وليس من مدينة كبيرة في الولايات المتحدة لا تخلد ذكراه بمعلم من معالمها. مثل شارع شيفشنكو في نيويورك وحديقة في فيلادلفيا باسمه. ومحمد المهدي مجذوب كان زميلي الوحيد في وفد أدباء السودان. وكان هدية من الله. والله بهدي الجنة. أطلعني، وأنا الشاب الغض الشيوعي في محراب قبلتي السوفيات، دروساً عززت إلى يومنا سودانيتي وإسلامي وشيوعيتي في آن معاً. اذكر واحدة فالمقام ضيق. أخذونا إلى مسجد في أوزبكستان ضمن برنامج زيارتنا للجمهورية السوفيتية. وما كنا عند باب المسجد حتى خلع المجذوب نعاله وتبعته بإحسان. وفوجئنا ونحن نعتب إلى داخل المسجد بأنه صار صالة للعبة تنس الطاولة. وكان تلك الفطرة من المجذوب ما لفت انتباه المرافق الذي نقلها بالطبع لاتحاد الأدباء السوفييت. ومن يومها لم يخف عليّ الاحترام الذي يقدح من عيون المضيفين للمجذوب. أما درسه لي فكان أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا، وأن لتنس الطاولة صالاته وللرب حرمه. ما علاقة المجذوب وشفشنكو؟ غلب الحديث عن شفشنكو في زيارتنا القصيرة لكييف. وكانت قصيدته “وصيتي” واسطة العقد. وكان اتفق لاتحاد الكتاب في الجمهورية ترجمتها إلى لغات العالم كافة. وتصادف أنها لم تعرب بعد. فسألونا إن كنا نرغب في نقلها إلى العربية. وبالطبع تولى المجذوب التعريب. وبدا لي في اليوم التالي أنه كمن لم يغمض. جاءني ملء يديه مسودات تعريبه لها بدا لي أن من وراء كل جرح في القصيدة وتعديل غصص شاعر السماء قريب دون مراده. وقرأ علىّ نصه الذي اصطفاه وأمنت على جماله. وعدها مجاملة مني. وكان في نفسه شيء من شفشنكو حتى سلمهم النص الأخير لتعريبه. ولا أعرف أن كانوا اعتمدوا نص المجذوب ونشروه في كتابهم المخصص ل”وصيتي” لشفشنكو بكل اللغات. وتجد أدناه محاولتي العرجاء لتعريب “وصيتي” لفائدة القراء. حين أموت دثروني بتراب أوكرانيا الحبيبة وشاهدي فوق قبر على التلة وسط السهل الممراح لترى عيوني الحقول والسهل الذي بلا مدى وشاطئ الدينيبر الغريق وتسمعها جميعاً أذني خلل زئير ذلك النهر العاتي حين يتحامل الدنيبر على نفسه من أوكرانيا متلاشيا في زرقة البحر العميقة يا ليوم مثله أرى فيه دماء الأعداء وحينها سأرتحل عن هذه التلال والحقول الخصيبة سأغادرها جميعاً وأحلق بعيداً لرحاب الرب وحينها سأصلي، ولكن حتى يأزف هذا اليوم لست أعلم عن الرب شيئا أدفنوني وأنهضوا جميعاً وحطموا قيودكم الثقيلة وأسقوا بدم الأعداء الحرية التي نلتموها وفي رحاب هذه العائلة الجديدة عائلة الأحرار تذكروني أيضاً بالقول الرقيق والسخي ولبت أوكرانيا وصية شفشنكو أن يدفن على تلة في ثرى أوكرانيا. فقبره ظاهر يزار عند تلة تاراس (تلة شيرنيشيا سابقاً) عند نهر الدينيبر عند بلدة كانف. IbrahimA@missouri.edu