(1)
بالأمس تذكرت محجوب شريف، اللحظات التي احتفلنا خلالها بيوم الشعر العالمي في الخرطوم لأول مرة في تاريخ الخرطوم، كان العام 2006م ولم يكن السودان على ما يُرام، ولكننا -كشاعرات وشعراء- كُنّا كذلك؛ مقاومة الشعر مندلعة في عروقنا، وأملنا في حياةٍ جديدة لم يَنَل منه يأس. ارتحلنا بعد ندوةٍ شعريّة بقاعة الدكتور محمد عبد الحي، بالمتحف الطبيعي جامعة الخرطوم، جميعنا، إلى بيت الشاعر العظيم، وكعادته استقبلَ كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا بأهميّة مُتفرّدة، كما يفعل دائماً مع جميع أهل السودان اللذين يعرفهم، واللذين لم.
ثمّ بدأت أتذكّر أيام الشعر في السنوات التالية، وكيف كان إصرارنا، عبر مبادراتنا جميعها، على تنظيمه بأبهى ما يكون، لأن الشعر حبيب السودان وأهله منذ القِدَم، ولأنّه تقدّمهم في العواصف كلها، وكان الطائر الذي يُجرِّح جناحيه بالشمس والليل والأحلام ليدلّنا على الطريق، ليُخبرنا بما سيأتي.
كان شريف نقطة انطلاقٍ مُبهرة، ليس ليوم الشعر وحده، ولكن لكَ كإنسان إن قابلته، وشعرت الشّعر يقطر من ملامحه الطفلة. لم أكن أثق في الطفولة التي داخلي حتّى عَرِفته، وعرفتُ أن الطفولة هي التي تُزكي نار الشعر، أعني العين الجديدة التي نحتاجها في كلّ حين.
ويمرّ يوم الشعر بالأمس (21 مارس 2022م) وقد وصلنا متأخّرين نتلمّس ملامح كوابيسنا المكتوبة في أشعارنا منذ أمدٍ سحيق، منذ جذورٍ متغلغلةٍ في طفولتنا وأحلامنا، وما كنتُ أصدّق أن بشاعةً كهذه ستحلّ بالعالم، حيث تحرّك أعضاءَه وحوشٌ تفتخرُ بشراستها، وانغماسها الشَرِه داخل أمعاء ودماء البنات والأولاد، والذين وصَّانا محجوب بأن نُسلِّم عليهم؛ هذه السلالة المُدركة لألم كلّ شبرٍ من أرض النيلين، ويحملون في قلوبهم المُصابة بالرصاص شكله الأجمل بالتفصيل الدقيق، ذات التفصيل الذي وضَّحهم به المحجوب في قصيدته: “طريق الشعب”:
“شجر متشابك الهامات
جيلاً جاي حلو الشم
صبايا وفتية يمرحوا في صباح الغد
عيونهم برقهن لماح
سوالم رد
وتطلع من شقوق الأرض
آلاف المدن قامات
يطلعوا من قلب الحجر الصم
خفاف ولطاف
ثعابيناً أوان الجد
دفاعاً عن حياض السلم والإفصاح
سلموا لي عليهن جملة
حتى اللسة قبل الخلق والتكوين
صناع الحياة اليوماتي
ملح الأرض
نبض الشعر والموسيقى والتكوين”.
(2)
آهٍ، كم يبدو الشعرُ عاجزاً في عالم اليوم؟ أتذكّر هنري ميللر يصفُ اللحظة التي لن يُفهم فيها الشاعر، وهو يتحدّث هنا عن الشاعر العظيم رامبو:
“عندما يكون الشاعر في الحضيض، يغدو قَلب العالم، رأساً على عقب، واجباً. حين لا يعود باستطاعة الشاعر، التحدث إلى المجتمع.. وإنما لنفسِهِ، فقط، نكونُ نحن، إذن، في الخندق الأخير.
على الجسد الشعري لرامبو أخذنا نبني برجاً لبابل. ولا يعني شيئاً أننا لا يزال لدينا شعراء، أو أن بعضهم لا يزال مقروءاً، قادراً على الاتصال بالناس. ما هو اتجاه الشعر؟ وأين العلاقة بين الشاعر والجمهور؟ ما هي الرسالة؟ لنوجّه السؤال أولاً:
أترانا نُفكِّر بالجمال مهما كان مُرَّاً، أم نُفكِّر بالطاقة الذريّة؟ وأي عاطفة قائدةٍ تُلهِمُ مكتشفاتنا العُظمى، الآن؟ الرهبة! إن معرفتنا بلا حكمة، وراحتنا بلا أمان، واعتقادنا بلا إيمان. ولا يجد شعر الحياةِ تعبيره إلا في الصيغ الرياضيَّة والفيزيائيّة والكيميائيّة.
الشاعر منبوذ، شذوذ، هو في طريقه إلى الانطفاء. من يهتمّ الآن.. كيف جَعَل الشاعر من نَفسِه مَهولاً؟ إن الوحش طليق، يطوف العالم. لقد أَفلَتَ من المختبر. وهو في خدمةِ كلّ من يجد الشجاعة على استخدامه. العالم أَمسَى، حقيقةً، رقماً! إن أخلاقيّة الوجهين، مثل كلّ ذي وَجهين، قد انهارت. وهذه الفترة هي فترة التدفّق والخطر المحيق. لقد حلَّ الانجراف الكبير.
أما الحمقى فيتحدثون عن الترميمات، والتدقيقات، عن الانحيازات والائتلافات، عن التجارة الحرّة والاستقرار الاقتصادي، والإصلاح!. لا أحد يؤمن من الأعماق بأن وضعيّة العالم يمكن تصحيحها. كل واحد ينتظر الحدث الكبير، الحدث الوحيد الذي يشغل تفكيرنا ليل نهار: الحرب القادمة. نحن عبثنا بكلّ شيء، فلم يبقَ بيننا من يعرف كيف. ومن أين يصل إلى التحكّم. المكابح لا تزال موجودة، لكن أتراها ستعمل؟ نحن نعرف أنها لن تَعمل. قد انطلَقَ المارد. لقد أمسَى عصر الكهرباء متخلّفاً وراءنا، كأنه العصر الحجري. عصرنا هو عصر القوّة، القوّة الخالصة الصريحة. اليوم… أمامنا: إمّا الجنّة أو النار، ولا وسط بينهما. وكل الدلائل تُشير إلى أننا سنختار النار. حين يعيش الشاعر جَحيمَه، لا يعود باستطاعة الإنسان العادي أن ينجو من الجحيم. هل سمّيت رامبو مرتدّاً؟.
نحن، جميعاً، مرتدّون. لقد كنّا نرتدّ منذ فجر التاريخ. وأخيراً لحقَ بنا القدر. سيكون لنا (فصل ـ نا ـ في الجحيم).. لكل رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ ذوي علاقةٍ بهذه الحضارة. هذا ما كنّا نتوسّل حدوثه، وهو الآن… هنا!”.
كتب ذلك في العام 1955م، وهو يؤكّد: (بعد خمسين سنة، من الآن، ستُمسي الأرض، بأسرها، فوّهة بركان شاسعة. القوة التي بين أيدينا اليوم ـ على الرغم من نَفي العلماء ـ هي قوّة مُشعّة، دائمة التدمير. لم نُفكّر، أبداً، بالقوة، في صيغة الخير. بل في صيغة الشر، فحسب، ليس ثمّة من غامضٍ في طاقات الذرّة، إن الغموض هو في قلوب البشر. لقد جاء اكتشاف الطاقة الذريّة متزامناً مع اكتشاف أن أحدنا لن يثق بالآخر، مطلقاً. هنا يكمن الشؤم ـ هذا الخوف المتعدّد الرؤوس، الهيدرا، الذي لا تستطيع أية قنبلةٍ أن تُدمِّرَهُ. إنّ المرتدّ الحقيقي هو الإنسان الذي فَقَد الثقة في بني جنسه. فقدان الإيمان، شاملٌ، اليوم. وهنا يكون الربّ نفسهُ عاجزاً. لقد آمنّا بالقنبلة، والقنبلة هي التي سوف تستجيب لصلواتنا)*.
(3)
كل عام والشعر طاقتنا وحياتنا وأملنا في تعلّم الإنسان من جحيمه الذاتي، والذي لم يَجِدّ في أمرٍ بأكثر من تخليق نيرانه وحممه بكل همّةٍ وإتقان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقتطف من كتاب هنري ميللر: رامبو وزمن القَتَلة، ترجمة الراحل سعدي يوسف
نُشرت الإفادة بمناسبة يوم الشعر العالمي 21 مارس 2022م، بصحيفة (مداميك) الإلكترونية
eltlib@gmail.com