في ديسمبر من العام 2018 وطوال أربعة أشهر الى أبريل 2019، انطلقت بلا توقف التظاهرات الرافضة لحكم جماعة (الانقاذ) الذي امتد لثلاثين عاما حسوما، وشهدت بعض الاماكن عمليات حرق لمقار حزب المؤتمر الوطني المحلول، وكانت تلك التظاهرات الحاشدة التي عمت كل البلاد بدءا من الولايات، تلتزم بالجدول الثوري الذي كان يعلنه تجمع المهنيين وتلتزم بتنفيذه، وكانت شعارات الثوار تتمحور حول اسقاط النظام وكانوا يرددون هتافاتهم المركزية (حرية سلام وعدالة)، و(سلمية سلمية ضد الحرامية)، و(تسقط بس)، (حكومة الجوع تسقط بس)، و(حكومة البطش تسقط بس)، و(الشعب يريد اسقاط النظام) الى آخر تلك الشعارات والهتافات الهادفة الى اطاحة النظام الفاسد والقمعي، واستبداله بنظام مدني وديمقراطي كامل الدسم، عبر عنه شعارهم المعروف (عسكرية آآآوين يا..مدنية وي وي وي)، وكان أن لجأت سلطات القمع والبطش في محاولة يائسة منها لاخماد الثورة، لضرب المتظاهرين بالرصاص الحي والاستخدام الكثيف للغاز المسيل للدموع، فسقط جراء هذا العنف المفرط عشرات الشهداء ومثلهم من المصابين، علاوة على اعتقال اعداد كبيرة من المتظاهرين والناشطين في مؤسسات المجتمع المدني وقيادات الأحزاب المعارضة، ووقتها أكدت منظمة العفو الدولية أن 37 متظاهرا قتلوا بالرصاص منذ بدء الحراك، كما دعت كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج وكندا، النظام إلى تجنب إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، والاعتقال التعسفي والقمع، ليضطر الرئيس المخلوع عمر البشير بعد هذه الضغوط الشعبية والدولية، للظهور للرأي العام ليعلن عن نيته لاجراء ما أسماه (اصلاحات جدية)، في محاولة لاخماد الثورة وامتصاص الغضب الشعبي والقلق الدولي، وبالطبع وكعادته لم ينس المخلوع أن يتهم من يتوهم أنهم خونة وعملاء ومرتزقة يعملون على تخريب مؤسسات الدولة، متبجحا بأن الاحتجاجات لن تؤدي إلى تغيير النظام، وتمثلت (اصلاحاته الجدية) التي وعد بها في اعلان حالة الطوارئ، واقالة رئيس الوزراء معتز موسى وتنصيب محمد طاهر ايلا بديلا عنه، واقالة وزير الصحة وتقديمه كبش فداء للارتفاع الكبير في أسعار الأدوية، وتسليم رئاسة حزب المؤتمر الوطني (المحلول) لأحمد هارون، ولكن كل تلك الاصلاحات المزعومة لم تزد الشارع الا اشتعالا، ولم تغير في واقع الحكم شيئا غير أن تزيد السلطة من جرعات العنف المميت وتوسيع دائرة الاعتقالات والتضييق أكثر على الحريات الصحفية، اذ سحبت السلطة تصاريح العمل الممنوحة للمراسلين والصحافيين العاملين في وسائل اعلام وصحف خارجية، هذا غير التضييق المستمر على الصحف المحلية، بالمصادرات المتكررة لها، وكانت هذه الصحيفة (الجريدة) أكثر من عانى من الاستهداف، لدرجة أنها فضلت التوقف بارادتها من أن تساهم في تزييف المعلومات الحقيقية وتضليل الوعي، واستمرت الثورة في عنفوانها بلا نكوص أو انتكاس رغم العنف والبطش وسقوط الشهداء، الى أن تكللت مسيرتها الظافرة بالوصول الى حرم القيادة العامة للجيش واقامة اعتصام في محيط القيادة، حتى (حدس ما حدس) في عملية فض الاعتصام القذرة، وما تلا ذلك من احداث ومرور مياه كثيرة آسنة تحت الجسر، وصولا الى مرحلة انقلاب 25 اكتوبر..
قصدنا من هذه الفذلكة السريعة والمختصرة لآخر أربعة أشهر من عمر النظام المباد، للتأكيد على أنها تشبه تماماً الشهور الخمسة التي قضاها حتى الآن انقلاب البرهان وحميدتي، وكأنما يعيد التاريخ نفسه، فما حدث من نظام المخلوع البشير خلال تلك الشهور هو عينه الذي يحدث الآن من انقلابيي 25 اكتوبر، ولكن الانقلابيون لا يتعظون ولا يقرأون حتى التاريخ القريب، بل الأنكى أنهم لا يتعلمون.
الجريدة