التقيته في رحلته الأخيرة للعلاج من مرضه الذي ألم به، حين جاء الشيخ عبد الرحيم البرعي إلي مصر محبوبته التي أحبها في شبابه قبل أن يراها،ووضع لها مكانة في قلوب السودانيين, وكتب فيها أروع ما كتب عنها وضمنه قصيدته الشهيرة “مصر المؤمنة بأهل الله” التي حفر فيها في الوجدان السوداني حب مصر وتقديرها والاشتياق إليها.
وقد صنع البرعي بقصيدته هذه في الوجدان السوداني تجاه مصر بغير مبالغة ما لم تستطع كل المؤسسات والأجهزة المصرية أن تفعله علي مدي مئات السنين.
ذهبت لزيارته خلال وجوده بالقاهرة وقتها وأجريت معه مقابلة هي الأخيرة تقريبا التي يجريها قبيل وفاته, ذهبت إليه مشتاقة لرؤية هذا الرجل الذي يجله كل سوداني, وأنا أشعر بأنني وكل مصري مدينون له بما أرساه في الوجدان السوداني من حب مصر التي وصفها في قصيدته الرائعة بالأم, يقول عنها: مصر أمنا.
كنت أشعر بأنني تأخرت كثيرا قبل أن أقابل هذا الرمز رغم زياراتي العديدة للسودان, كنت أنوي في كل مرة زيارته, لكن الأحداث المتلاحقة في السودان كانت دوما تحاصرني وتحول بيني وبين هذا الرجل الذي ترك بصماته في كثير من أنحاء السودان.إن لم يكن بفعله, فعبر أفكاره ورؤاه, ولما أخبرته بذلك هون علي وقال بطيبة مؤثرة وتواضع جم: زيارتك وصلت.
لم يكن شيخا صوفيا عاديا, بل كان مجددا, وكان مصلحا اجتماعيا من الطراز الأول, يقول عنه المؤرخ والكاتب السوداني الدكتور عبدالله حمدنا الله: امتلك أفئدة عامة الناس بسهولة ألفاظه وشيوع عباراته, وكانت آية العظمة في شخصيته الإنسانية التي تتصف بأسمي خصائص الإنسانية العصامية وعدم جموده في قمة باردة, لأنه لم ينظر إلي أعلي غرورا, وإنما ظل يخفض بصره إلي أدني تواضعا.
بدأ البرعي طريقه في بيت من بيوت الطريقة السمانية, لا يتعدي أثره محيطه في بقعة نائية من شمال كردفان, لم يسمع بها أحد خارج محيطها, فهي ليست جاذبة بثروة ولا جمال, وهو ليس من أصحاب الأموال ولا أكبر إخوانه ولا أكثرهم علما ولا أحقهم بخلافة والده, لكنه استطاع بعصامية فذة أن يرتفع بخلافته لبيت من بيوت الصوفية إلي أن يكون أشهر رجال الطرق الصوفية في السودان قاطبة, وأن يخرج من قرية الزريبة ليكون شخصية قومية يعرفها كل أهل السودان.
كان شغوفا ببناء المساجد, وبني عددا منها في جميع أنحاء السودان, وكانت له معرفة كبيرة بالسيرة والفقه واللغة, وكانت قصائده تحمل دروسا في السيرة النبوية وتحض الشباب علي العمل والأخلاق.
عرف باهتمامه بالشباب والأيامي, وأقام حفلات الزواج الجماعي, وظل ينادي بتخفيض المهور ومحاربة العادات الضارة واحترام المرأة وتقديرها.وقد اقتفي البرعي في حياته نهج آثار أئمة الإسلام المهتدين, وقدم نموذجا طيبا لمريديه وأحبائه, فاجتذب نحوه الملايين, ووصل تأثيره إلي دائرة واسعة عمت أرجاء السودان.
وامتدت بينه وبين فئات المجتمع السوداني قاطبة أقوي وأمتن الصلات, قوامها احترام الناس الشديد للشيخ الجليل الذي اجتذبهم بنهجه الوسطي, الذي لم يجنح يوما إلي الغلو أو التشنج, فنجح في جمع الصف وتوحيد الكلمة, وعمد إلي تبسيط شرح تعاليم الدين, مقتديا بالقدوة الحسنة للرسول صلي الله عليه وسلم.
وقدم البرعي في حياته المثال الصادق علي إخلاص النية وصدق التوجه وقوة العزيمة ،و كان متواضعا تواضع العلماء الأفذاذ, وكانت كرامته في استقامته واهتمامه بالوطن دون انحياز وعرف انشغاله بقضاياه كالسلام ومشاكل الشباب وغلاء المهور وتيسير الزواج وتكريم المرأة ومحاربة العادات الضارة.
جمع البرعي الناس حول كلماته التي قدمها نثرا وشعرا, وتميز بقصائده في مدح الرسول التي تناقلتها كل الألسنة في السودان.لا تخلو قصائده من مدح وإرشاد نحو فعل الخير والتعامل الكريم حتي مع من يعادوننا يقول: أحسن فيمن عاداك ومن يحبك, وفي معاملة الزوجة يقول: مهما دمت لا تظلمها والدين الحنيف علمها, ومن نعماك لا تحرمها, ارعي حرمتها واكرمها.وترك تراثا علميا وأدبيا خالدين جسده مسلكه الواقعي, وقدم أعظم الدروس في كيفية تعميق أثر التدين في حياة الناس, ونذر حياته كلها لفعل الخيرات, فأنشأ المساجد وخلاوي القرآن ودور العلم, وبذل جهده للصلح بين القبائل والناس وإقامة البني التحتية.
كان الشيء الكبير عنده الوطن, ذهب إلي مقر المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية برغم مرضه, وقابل الراحل قرنق وأعضاء حركته, سألته: كيف قابلتك قيادات الحركة؟ قال: بود وتقدير كبيرين, وقد جاء قرنق لزيارتي وبصحبته زوجته السمراء الطويلة.
سألته كيف تنظر لاتفاقيات السلام؟ قال: سيكون في السلام خير كثير للسودان, سألته: يخشي بعض الناس من وصول الحركة الشعبية للحكم ومشاركتها في السلطة, كيف تري ذلك؟ أجابني: لا داعي للمخاوف, هم إخواننا ومشاركتهم ستكون لصالح السودان واستقراره.
وحينما قابله قرنق قال له: نحتاج إلي وجودك أطول فترة ممكنة في نيفاشا حتي تلهمنا الصبر والحكمة لحل مشكلات الوطن والتوصل إلي اتفاق السلام.
كانت خلاصة حديث الشيخ البرعي له: إن الوطن يسع الجميع, كان مهموما بتصعيد الأزمة في دارفور, كان يري أن تسليح الشباب بأخلاق الإسلام هي السبيل لصنع وطن أفضل.
سألته في نهاية حديثي معه الدعاء, فدعا لي بالخير وشال لي الفاتحة بتعبير أهل السودان, ودعا الله أن يؤلف بين أبناء الوطن الواحد في السودان, وأن يوحد الأمة الإسلامية.
واليوم ما أحوج السودانيين وهم يستقبلون مرحلة فاصلة من تاريخهم إلي الحفاظ علي التراث الذي جسده الشيخ البرعي من قيم التسامح والأخلاق الفاضلة وعلي الحفاظ علي إرثه العظيم في عمل الخير والتعايش وقبول بعضهم بعضا والتسامي عن الأحقاد والمرارات والتصافي والمحبة الخالصة والإقبال علي السلام بقلوب مفتوحة.
وما أحوج المسلمين إلي الاقتداء بدعوته الوسطية وتسامحه ونبذه للغلو والتطرف واعتماده الكلمة الحسنة كأسلوب للحوار حتي لا يقعوا في الفتن التي أضرت بالمسلمين كثيرا.